أخيرا وللمرة الثانية حسمت معركة بلدية اسطنبول التركية وفاز بها مرشح حزب الشعب الجمهورى المعارض أكرم إمام أوغلو على حساب مرشح حزب العدالة والتنمية الحاكم بن على يلدريم. والسؤال من الرابح ومن الخاسر فى هذه المعركة التى شغلت العديد من الدوائر السياسية والإعلامية بالمنطقة، بل وفى العالم أجمع؟!
قبل الإجابة على هذا السؤال، ربما يجدر بنا أن نسأل سؤالا مهما وهو: ماذا لو قبل الرئيس التركى رجب طيب أردوغان، نتيجة المرحلة الأولى التى جرت فى 31 مارس الماضى، والتى فاز فيها أوغلو بفارق ضئيل، لا يزيد عن عشرين ألف صوت، ويساوى 0.2%، فى حين ان الفارق فى فوز امس الأول وصل الى 9%؟!
لو أن أردوغان فعل ذلك، لكان فى إمكانه الزعم بأنه يؤمن فعلا بالديمقراطية، وبحكم الصندوق، حتى لو جاء بخصومه.
لكن، ولأنه لا يؤمن بذلك عمليا، فقد انكشف بصورة واضحة وجه أردوغان الحقيقى، فيما يتعلق بمسألة الديمقراطية، التى كان يعطى فيها دول المنطقة، بل والعالم دروسا وعظات مستمرة.
أهمية معركة اسطنبول أنها المرة الأولى التى يخسر فيها أردوغان وحزبه بصورة واضحة، بل ومذلة. لم يخسر قبل ذلك، وبالتالى لم نر رد فعله الحقيقى، على تقبل الخسارة وتهنئة منافسه، والقبول بقواعد اللعبة الديمقراطية.
ما رأيناه عقب إعلان فوز أكرم أوغلو فى مارس الماضى، كان وجها صريحا لأردوغان، ويبدو أنه وجهه الحقيقى. هو لم يعترف بفوز أوغلو، وأصر على إعادة فرز الأصوات، بحجة أن عدة مخالفات شابت التصويت، وتم التلميح بأن اللجنة العليا للانتخابات منحازة لمرشح المعارضة، رغم أنها هى من أشرفت على انتخابات الرئاسة التى فاز بها أردوغان.
رضخت اللجنة لرغبة إعادة فرز الأصوات التى أكدت فوز أوغلو، لكن ضغوط أردوغان دفعتها لإعادة الانتخابات مرة أخرى يوم الأحد الماضى.
قبل الانتخابات الاخيرة بيومين، هدد أردوغان بأنه لن يسمح لأوغلو بممارسة عمله حال فوزه، إلا إذا اعتذر لرئيس بلدية ينتمى لحزب العدالة والتنمية وللشعب بأكمله، كان قد تشاجر معه على خلفيات حزبية وانتخابية.
خلال الحملة الانتخابية أيضا لجأ أردوغان لكل الحيل والطرق لإسقاط أوغلو. اتهمه مرة بأنه من أنصار فتح الله جولن، وهى تهمة تعنى فى تركيا الآن تشريده والتنكيل به والقبض عليه فورا. ثم خاطب الجماهير بأن التصويت لأوغلو يعنى التصويت للرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى!! وهى سقطة كبيرة للرئيس التركى، تعنى أنه لم يعد يتصرف كرئيس لبلد كبير مثل تركيا، بل تصرف كعضو صغير متطرف فى جماعة الإخوان!!
لكن ما يؤلم أردوغان أكثر أنه أشرف بنفسه على الحملة الانتخابية ليلدريم، ثم عاد وألقى بكل ثقله مرة أخرى خلفه فى حملة الإعادة، وحينما ينهزم مرشحه بفارق يصل إلى 9%، فإن غالبية المراقبين يقولون إن ما حدث كان إذلالا شعبيا لأردوغان نفسه، وتصويتا على شعبيته وربما سياساته، خصوصا ان اهالى اسطنبول هم الذين رفعوه لعنان السماء وانتخبوه رئيسا للبلدية، التى كانت بوابته لتولى رئاسة الوزراء. وكان يحلو له القول دائما «ان من يخسر اسطنبول يخسر تركيا». ومن الواضح أنه بات يعيش اسيرا لهذه المقولة، لأنها المفسر الاوضح لكل سلوكياته الغريبة فى الفترة الأخيرة، خصوصا منذ فشل انقلاب يوليو 2016.
خسر أردوغان كثيرا داخل وخارج بلده حينما ضغط لإعادة الانتخابات، لأنه فى كلتا الحالتين كان سيخسر، حتى لو فاز مرشح حزبه، امس الأول. كان هذا الفوز سيفسر على أنه جاء بالقوة الجبرية القاهرة. وحينما خسر مرشح «العدالة والتنمية»، كانت الخسارة أكثر فداحة لأردوغان، لأنها كشفت إلى حد كبير اولا عن تراجع شعبيته هو نفسه، لكن الاهم انها كشفت عن النوازع التسلطية فى شخصيته، وإصراره على دهس كل من يقف فى طريقه، حتى لو كانت المبادئ والأفكار والأساليب التى أوصلته هو وحزبه وتياره للسلطة.
بالطبع بعض ممن سيقرأ هذا المقال، سيسأل سؤالا بديهيا هو: ولماذا تهاجم أردوغان.. أليس الرجل أجرى انتخابات حرة، ثم قبل فى النهاية بنتيجتها؟! وقد يسأل آخر: وهل هناك فى غالبية بلدان الشرق الأوسط والمنطقة العربية من يقبل بوجود مرشح منافس اصلا وفائز، ولو حتى برئاسة قرية؟!
السؤال وجيه ومنطقى وسأحاول الإجابة عليه لاحقا إن شاء الله.