بقلم: عماد الدين حسين
هناك مشكلة سوء فهم كبيرة بيننا وبين الشعب الإثيوبى، وللأسف فإن الحكومات الإثيوبية المتعاقبة تعمل على تغذية وإدامة هذه المشكلة لأسباب لم تعد خافية.
جوهر المشكلة هو اعتقاد قطاعات كبيرة من الشعب الإثيوبى بأن مصر تهيمن على نهر النيل، مما ادى لحالة الفقر والتخلف والجهل التى يعيشها الإثيوبيون لفترات طويلة.
ومن سوء الحظ ان الحكومات ووسائل الإعلام الإثيوبية تمكنت من زرع أوهام كثيرة فى عقول مواطنيها، منها مثلا أن كل مصرى يمتلك فيللا وحمام سباحة مملوءا من مياه النيل، المحروم منها الإثيوبيون، وأن غالبية المصريين لديهم شقق ووحدات سكنية على كورنيش النيل بطول البلاد وعرضها!!
زرت إثيوبيا مرتين فى يونيو ٢٠١٢، ويناير ٢٠١٥، وقابلت العديد من المواطنين العاديين. وكانت المفاجأة أن السائق الذى كان يلازمنى فى تحركاتى ــ وهو شاب مسلم ــ لديه يقين راسخ أن سياسات مصر الاستعمارية هى السبب فى فقر بلاده، وأن المصريين ينظرون نظرة فوقية واستعلائية إلى الإثيوبيين، وأن السينما والدراما المصرية يعكسان هذه الصورة منذ عقود طويلة!!
ظللت أناقشه طويلا، بأن هذه نظرة خاطئة، وأن مصر نفسها كانت ضحية الاستعمار البريطانى لمدة سبعين عاما، وأنها هى التى ساعدت العديد من الدول الإفريقية على نيل استقلالها من الاستعمار الغربى. الشاب كان متعاطفا إلى حد ما مع سياسات الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، لكن كان يرى ان مصر فى المجمل تريد الهيمنة على بلاده وتحرمها من التنمية.
شرحت له مطولا أن هناك أكثر من ٩٠٠ مليار متر مكعب من مياه الأمطار، تهطل فى المتوسط على الهضبة الإثيوبية، لا يصل منها إلى مصر إلا ٥٥ مليار متر مكعب، وقلت له إن الطبيعة حرمت مصر من الأمطار، وبالتالى فمياه النيل هى مصدر الحياة الوحيد للمصريين، الذين لا يعارضون أى مشروعات تنموية للإثيوبيين، طالما أنها لا تضر بحقهم فى الحياة.
لم يقتنع الشاب كثيرا بكلامى، وأتذكر أن الصورة أو اللافتة أو الشعار الذى كان يتكرر فى غالبية الميادين الإثيوبية هى لمواطنين إثيوبيين يضعون أيديهم معا فى لقطة تعكس التحدى، وخلفهم سد الألفية أو السد العظيم، الذى تحول اسمه لاحقا إلى سد النهضة.
الحكومات الإثيوبية نجحت فى إقناع مواطنيها بأن السد هو مشروعهم القومى الذى سوف ينتشلهم من الفقر. وأقنعتهم ايضا أن السياسات المصرية على مدى عقود وربما قرون كانت السبب فى تأليب الرأى العام الإقليمى والدولى ضدهم، ما منعهم من تحقيق هذه التنمية، وبالتالى وصل إليهم يقين بأن خروجهم من كل مشاكلهم أو معظمها يبدأ بتحدى الهيمنة المصرية.
هذه الصورة تتجسد فى العديد من وسائل الإعلام الإثيوبية، وتدعمها العديد من الدوائر الحكومية. نعلم تماما أن هناك مشاكل عرقية كثيرة فى إثيوبيا، بسبب صراع القوميات، خصوصا بين أقلية التيجراى التى كانت تحتكر السلطة لسنوات طويلة، وأغلبية الأورومو التى كانت محرومة من المناصب والثروة، إضافة إلى قوميات أخرى تشكل الفسيفساء الإثيوبية الهشة عرقيا واجتماعيا.
آبى أحمد نجح فى تحقيق انقلاب سياسى اجتماعى بصعوده ممثلا للأورومو، ونجح أيضا فى إخماد العديد من المشاكل المتفجرة التى كانت تهدد بلاده خصوصا صراعها الدامى مع إريتريا، والصومال وجيبوتى، كما لعب دورا مهما فى دعم التحولات الأخيرة فى السودان. لكن الأوضاع لم تستقر له ولجماعته حتى الآن بصورة كاملة، وهناك العديد من القلاقل التى تعصف بهذا التوازن الهش.
وبالتالى فإن أحد التفسيرات المهمة للانسحاب الإثيوبى الفج من مفاوضات سد النهضة فى واشنطن ــ إضافة إلى محاولة فرض الأمر الواقع على مصر ــ هو تفجير معركة سياسية وإعلامية مع مصر لضمان الحشد الشعبى خلف الحكومة، باعتبارها تخوض صراعا قوميا مع قوة إقليمية كبرى هى مصر.
وبالنظر إلى السلوك الإثيوبى الأخير، علينا أن نتوقع الاستمرار فى التصعيد الإعلامى ضدنا فى الفترة المقبلة، لضمان حشد المواطنين خلف الحكومة استعدادا للانتخابات المقبلة فى مايو المقبل.
السؤال: ما هو المطلوب منا، لمواجهة هذا السلوك الإثيوبى، وكيف نصل للشعب الإثيوبى ونقنعه بأننا لا نعاديه، ولا نمانع فى تحقيقه للتنمية، وتوليد الكهرباء، وأن كل ما نريده هو حقنا فى المياه، لكى نستمر على قيد الحياة. وكيف نقنع الحكومة الإثيوبية، بأن سلوكها العدوانى قد ينجح لفترة، لكنه لا يمكن أن يستمر طوال الوقت، وأن الصبر المصرى سوف ينتهى عند لحظة معينة طال الزمن أم قصر؟!