لو كنت مكان الحكومة لأصدرت أمرا عاجلا لكل المسئولين، خصوصا المتحدثين الرسميين فى الوزارات والمصالح الحكومية، بالتوقف عن «ثقافة النفى الفورى فى بعض الحوادث، إلا بعد التأكد من الحقيقة».
الذى دفعنى للكتابة بشأن هذا الموضوع، هو الخطأ القاتل الذى ارتكبته هيئة السكة الحديد حينما أصدرت نفيا فوريا فى واقعة «شهيد التذكرة»، فى حادثة القطار عند طنطا، جاء فيها أن البائعين الجائلين هما من قاما بالقفز من القطار مثلما يفعل كل الباعة الجائلين، وأن الكمسارى أو أيا من موظفى القطار لم يدفعوهما لذلك.
ثم تبين لاحقا أن الكمسارى فتح باب القطار.. والنيابة نفسها وجهت إليه تهمة القتل بالترويع، خصوصا ان «سفرى القطار» اقر فى تحقيقات النيابة أن الكمسارى طلب منه مفتاح الباب كى يقفز البائعان خلال تهدئة القطار.
للموضوعية ليس ما حدث خطأ نادرا وقعت فيه وزارة النقل فقط، ولكنه استمرار لسياسة وثقافة عامة، تقع فيها الهيئات والمصالح والمؤسسات والوزارات العامة والخاصة فى مصر منذ عشرات السنوات، وليس وليدة اللحظة.
هذه النماذج والأخطاء لا تعد ولا تحصى. تذكروا النفى الرسمى لوزارة الداخلية بشأن مقتل الشاب خالد سعيد فى الإسكندرية عام 2010. وقتها الوزارة أصرت على أنه مات لأنه ابتلع لفافة مخدرات، وتقرير الطب الشرعى أكد هذه الرواية، لكن اتضح لاحقا أنه مات من التعذيب، وأن تقرير الطب الشرعى، كان متواطئا. هذا الحادث كان أحد الأسباب أو الشرارات التى أشعلت ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١.
تعالوا نتخيل سيناريو بديلا وهو أن وزارة الداخلية، قالت وقتها إن بعض الضباط أو أمناء الشرطة أخطأوا وسوف يتم محاسبتهم. لو حدث ذلك فربما ما قامت الثورة!. سيقول البعض ولكن هناك عشرات الشرارات الأخرى التى كانت ستفجر الثورة او أى احتجاجات أخرى. والإجابة نعم، لكن ما أقصده هو أن يتحول الأمر إلى ثقافة عامة، ولا تصدر أى وزارة أو جهة نفيا لشىء إلا بعد التأكد أنه صحيح.
للأسف الشديد، غالبية المسئولين الحكوميين أدمنوا ثقافة النفى السريع. هم ينفون الخبر أو القصة أو الحادثة، وبعدها يبدأون فى التحقيق، لكن بعد خراب مالطة!!.
حينما تبدأ هذه الجهات فى إخبار الناس بجزء من الحقيقة أو كلها يكون الوقت قد فات والفضيحة اكتملت، ولا يمكن إنكارها، بل الأخطر، أنها تتسبب فى أن الناس لن يصدقوا أى كلام تقوله الحكومة حتى لو كان صادقا.
ما الذى كانت ستخسره وزارة النقل وهيئة السكة الحديد، لو أنها قالت الحقيقة من البداية، لمصلحة من يتم حماية سائق أو كمسارى أو ناظر أو مفتش قطار؟!
كان يمكن أن تتريث فى الرد، وتصدر بيانا تقول فيه إنها ستحقق فى الحادث، بدلا من التسرع.. على الأقل كان يمكنها فى هذه الحالة أن تقدم صورة متكاملة وتحاسب المخطئ وينتهى الأمر!!.
لكن العكس هو الذى حدث.. وهذه الثقافة الشائعة كلفت الوزارة خسارة هائلة، ووجهت ضربة قوية لجهود اللواء كامل الوزير فى عملية إصلاح هذا المرفق الذى يحتاج جهودا جبارة وأموالا طائلة. والخسارة لا تتوقف فقط على وزارة النقل، أو هيئة السكة الحديد، بل هى ستطال الحكومة بأكملها.
أعود إلى ما بدأت به وهو ضرورة أن تقوم الحكومة بعقد دورة تدريبية لكل المتحدثين الرسميين باسم الوزارات والهيئات والمؤسسات الحكومية. فى هذه الدورة مطلوب منهم أن يتلقوا تأهيلا من خبراء ومختصين فى كيفية التحدث للإعلام والطرق المختلفة لمخاطبته وماذا نقول ومتى وكيف وبأى طريقة؟!!. أعرف أن المتحدثين الرسميين، لا يقومون بالنفى من تلقاء أنفسهم، بل يتلقون أحيانا تعليمات من مسئوليهم المباشرين، وبالتالى فنحن بحاجة إلى تغيير هذه الثقافة من جذورها.
وعلى الحكومة أن تقتنع بأهمية هذا الأمر ليس من أجل خاطر عيون الحقيقة فقط، ولكن من أجل مصالحها العملية. هى تخسر كثيرا من جراء هذه الثقافة، التى تجعل الناس يشككون فى كل شىء تفعله الحكومة، حتى لو كان صحيحا!.