بقلم - عماد الدين حسين
فى بداية الاحتجاجات على رفع نسبة الضريبة على بعض أنواع الوقود فى فرنسا، قال الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون: «لن نقدم أى تنازلات لمثيرى الفوضى، لأن ذلك سيضع المخربين والفوضويين على قدم المساواة مع المواطنين، الذين يعبرون عن رأيهم بطريقة سلمية».
وبعدها بأيام قليلة قال وزير داخليته مساء السبت الماضى: «ندرس جميع الإجراءات التى تسمح لنا بضمان نشر الأمن فى البلاد، لا محرمات عندى ونحن مستعدون لاتخاذ الإجراءات جميعا ضد مثيرى الشغب والانقسام. وهناك نحو تسعين ألف شرطى، بينهم ٤٦٠٠ عنصر منتشرين فى العاصمة باريس للسيطرة على أعمال العنف.
هذا ما كان فى البداية، لكن ما حدث فى النهاية، خصوصا مساء الأربعاء الماضى، أن الحكومة والرئيس رضخوا لمطالب الفوضويين والمخربين غير السلميين» حسب وصفهم، وقرروا ليس فقط تعليق الضريبة لمدة ستة شهور، ولكن إلغاءها تماما والتفكير فى بدائل أخرى.
هل أخطأ ماكرون وحكومته حينما استجابوا لمطالب، اعتبروها فى البداية غير منطقية؟!
فى عالم السياسة، خصوصا فى الديمقراطيات القوية، لا توجد مباريات صفرية، بمعنى فائز كامل، ومهزوم كامل، بل هناك دائما الحلول الوسط، أو الفوز والهزيمة النسبية، وقد يفوز طرف أو حزب أو نقابة اليوم وينهزمون غدا، طالما أن هناك قواعد لعبة ديمقراطية يحتكم إليها الجميع.
على سبيل المثال نفذ موظفو السكة الحديد فى فرنسا إضرابا كبيرا، عن العمل فى شهر يونية الماضى، اعتراضا على تعديل وتقليل الحكومة بعض المزايا، التى كانوا يحصلون عليها، ومنها على سبيل المثال ضمان استمرارهم فى الوظيفة مدى الحياة، من دون قدرة الحكومة على إنهاء التعاقد معهم. يومها رفضت الحكومة تماما، الاستماع إلى مطالبهم، مدعومة بأن غالبية الفرنسيين أيضا، رفضوا هذه المطالب واعتبروها غير منطقية. وقتها أيضا فإن أكثر من ثلثى الفرنسيين كانوا يؤيدون الإصلاحات الاقتصادية التى طرحها ماكرون منذ فوزه الكاسح بمنصب الرئيس، قبل ١٨ شهرا.
المفارقة أن نفس النسبة بل وأكثر منها وهى أن ٧٢٪ من الفرنسيين صاروا يؤيدون المطالب التى رفعتها مظاهرات حركة «السترات الصفراء» التى بدأت بمطلب واحد فقط وهو إلغاء الضريبة على بعض أنواع الوقود وانتهت بأكثر من ٤٠ مطلبا تشمل الاستفتاء على سياسات ماكرون وإجراء انتخابات مبكرة لكى يقول الشعب رأيه فى سياسات الرئيس الاجتماعية والاقتصادية.
ما حدث هو أسوأ كابوس فكر فيه ماكرون، الرجل كان يحلم باستعادة النفوذ السياسى والاقتصادى والثقافى لفرنسا بل وقيادة الاتحاد الأوروبى، أو على الأقل التأثير فيه بنفس الدرجة الألمانية.
وتابعنا فى الأسابيع الأخيرة، الدعوات التى خرجت من باريس على لسان ماكرون لتشكيل جيش أوروبى موحد بديلا عن الابتزاز الذى يمارسه الرئيس الأمريكى دونالد ترامب ليل نهار ضد الجميع، ومنهم الاتحاد الأوروبى، لكى يتحمل تمويل الوجود الأمريكى فى القارة العجوز، ضد أى تهديدات خارجية محتملة، خصوصا من روسيا.
هل ما حدث هو مؤامرة خارجية جاءت من ترامب وأمريكا ردا على الجيش الموحد؟!
بالطبع لا يوجد مستحيل فى عالم السياسة، لكن يصعب إلى حد ما تصديق الدور الأمريكى السريع فى إشعال الأزمة.
كما يصعب أيضا تصور أن يقود أى تيار إسلامى مهما كانت قوته هذه المظاهرات، لأن هذا التيار صار أضعف من أن يؤثر فى محيطه التقليدى، حتى يكون قادرا على قلب الطاولة بالكامل فى بلد بحجم فرنسا !!!.
الاقرب إلى الصواب أن هناك ظروفا موضوعية كثيرة دفعت الفرنسيين للنزول والاحتجاج بمثل هذه الصورة العنيفة. قد يكون هناك دور خارجى، لكنه سيظل عاملا مساعدا أو مستفيدا، لكن الزعم بأنه الدور الوحيد يحتاج إلى أدلة حاسمة.
والأفضل من الجدل حول هذه الأسئلة، هو الانشغال بالقراءة الهادئة والموضوعية لهذه الاحتجاجات غير المتوقعة، لأن احتمالات انتقالها لمحيطها تبدو ممكنة، كما أن وسائل التواصل الاجتماعى جعلتها منتشرة عالميا.. وهنا يأتى الحديث عن احتمالات العدوى!!!.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع