بقلم: عماد الدين حسين
فى كل يوم تكشف إثيوبيا عن نواياها الحقيقية، فيما يتعلق بمفاوضات سد النهضة، لكن ما عرفناه مساء يوم الثلاثاء الماضى، يكشف عن الوجه الأكثر سفورا لإثيوبيا، والذى لا يريد الكثير منا تصديقه.
وزير الرى الإثيوبى سيليشى بيكيلى وعلى عهدة وزير الرى السودانى ياسر عباس بعث برسالة يوم الثلاثاء الماضى لنظيريه السودانى والمصرى يقترح فيها أن يكون الاتفاق فقط على الملء الأول لسد النهضة الذى تم بالفعل، والأخطر أن الوزير يربط اتفاق تشغيل السد على المدى البعيد بالتوصل إلى معاهدة شاملة بشأن مياه النيل الأرزق.
اجتماع يوم الثلاثاء كان مفترضا أن تقوم فيه اللجان الفنية والقانونية بمناقشة النقاط الخلافية الخاصة باتفاقية ملء وتشغيل سد النهضة يومى ٤ و٥ أغسطس. لكن قبل الاجتماع مباشرة وجه الوزير الإثيوبى بيكيلى خطابا لنظيريه المصرى والسودانى، مرفقا به مسودة خطوط إرشادية وقواعد لملء سد النهضة لا تتضمن أى قواعد للتشغيل أو عناصر تعكس الإلزامية القانونية للاتفاق فضلا عن عدم وجود آلية لفض المنازعات.
كان مفترضا أيضا أن يناقش اجتماع الثلاثاء الماضى النقاط الخلافية فقط لعرضها على اجتماع لاحق لوزراء المياه يوم غد الخميس، لكن الذى جاء فى الخطاب الإثيوبى بمثابة كرسى فى الكلوب، ونسف لكل ما تم الاتفاق عليه سابقا.
ما الذى يعنيه هذا التصرف الإثيوبى الأخير والخطير؟!
يعنى ببساطة أن إثيوبيا لم تكن صادقة منذ اللحظة الأولى للإعلان عن فكرة بناء السد فى فبراير ٢٠١١، ثم فى الإعلان عن تحويل مياه نهر النيل فى إبريل ٢٠١١، تمهيدا لإنشاء سد النهضة، الذى كانت سعته ١٤ مليار متر مكعب فقط، لكن الطمع الإثيوبى، واعتقادها أن مصر لن تتحرك جعلها ترفع السعة إلى ٧٤ مليار متر مكعب.
طوال السنوات السبع الماضية لجأت أديس أبابا إلى كل ما يمكن تصوره من حيل وألاعيب وشراء للوقت حتى تمكنت من الملء الأول للسد قبل أسبوعين، من دون اتفاق مع مصر والسودان.
البعض ظن بحسن نية أن هذا الملء الأولى هو أقصى وآخر حيل الخداع الإثيوبية، لكنهم كانوا مخطئين.
خطاب الثلاثاء الماضى يؤكد ما كنا نعتبره شكوكا وهواجس، وهو أن أديس أبابا لا تريد اتفاقا قانونيا ملزما، بل مجرد خطوط إرشادية غير ملزمة لتشغيل السد، يمكن لإثيوبيا تغييرها فى أى وقت.
خطاب وزير الرى الإثيوبى، يقول بوضوح ومن دون لف أو دوران، إن إثيوبيا تتعامل مع النيل الأرزق باعتباره نهرا إثيوبيا خالصا، وأنها تستغل بناء السد، لفرض اتفاق قسرى على مصر والسودان لترسيخ هذا المفهوم.
معنى الموقف الإثيوبى الأخير أن ما كانت تهمس به إثيوبيا طوال السنوات الماضية، صار هو الحقيقة التى لا يريد بعضنا تصديقها.
وزير الخارجية الإثيوبية جيدو اندار جاشيو كان الأكثر وضوحا فى التعبير عما تفكر فيه إثيوبيا، حيث غرد بعد لحظات من اكتمال الملء الأول الانفرادى قائلا: «تهانينا، كان نهر النيل والآن أصبح هناك بحيرة، ولن تتدفق مياهها نحو النهر، منها ستحصل إثيوبيا على ما تحتاج إليه من أجل التنمية، وفى الحقيقة.. النيل لنا».
الترجمة الوحيدة لهذا الكلام الفج أن إثيوبيا تتعامل الآن مع النهر باعتباره بحيرة محلية، وليس نهرا دوليا عابرا للدول، وبالتالى فهى تعتبر أن كل قطرة ماء تصل لمصر والسودان بعد الآن، هو منة وتفضل من إثيوبيا.
أديس أبابا ظلت تكذب لسنوات، وتقول إن الهدف الوحيد من بناء السد هو توليد الكهرباء لتحقيق التنمية، ثم اكتشفنا الحقيقة، وهى أنها تريده خزانا وبنكا للمياه تبتز به مصر بالأساس، وقد نكتشف غدا أنها سوف تستخدمه لأغراض زراعية.
الخطاب الإثيوبى الأخير الذى يربط الاتفاق باتفاقية دائمة للنيل الأزرق، يعنى ببساطة أن إثيوبيا تنسف كل الاتفاقيات السابقة، وتنسف حقوق مصر التاريخية من المياه، وتنسف اتفاق المبادئ الذى تم توقيعه فى الخرطوم فى مارس ٢٠١٥. هى تريد اتفاقا جديدا يعطيها حق التصرف المنفرد فى مياه النيل، وربما التفكير فى بيع هذه المياه لمصر.
إثيوبيا تواصل بدأب إرسال العديد من الرسائل لمصر فى الشهور الأخيرة، بأنها ستفرض أمرها الواقع، اعتقادا أنها فى موقع قوة تتيح لها أن تفعل ما تشاء من دون رد فعل حاسم.
لا أحد يدعو للحرب أو يهدد بها، لكن لا أحد يقبل أيضا أن يموت عطشا.