بقلم: عبد الله السناوي
لم تكن العملية العسكرية التركية فى الشمال السورى مفاجئة، أخذت وقتها فى الإعداد والتخطيط، وكانت فكرتها طوال الوقت محل سجال وتفاوض وبحث فى سبل تجنبها مع الإدارة الأمريكية التى أفسحت المجال فجأة أمام الرئيس التركى «رجب طيب أردوغان» ليتصرف منفردا بقوة السلاح.
إذا صح الادعاء الأمريكى بأنه لم يكن هناك ضوء أخضر للعملية العسكرية، أو تفاهمات مسبقة بشأن حدودها ومحاذيرها، كما يؤكد الرئيس «دونالد ترامب»، فالمعنى أننا أمام فوضى هائلة غير مسبوقة فى بنية صناعة القرار بالبيت الأبيض.
وإذا ما كان هناك مثل هذا الضوء الأخضر، فما حدث أقرب إلى الارتجال العشوائى دون تحسب للتداعيات التى يمكن أن تلحق أضرارا فادحة يصعب ترميمها بصورة الولايات المتحدة فى أكثر أقاليم العالم اشتعالا بالنار.
فى مثل هذا الارتجال العشوائى تضاربت تصريحات «ترامب»، فمرة يتوعد بسحق تركيا اقتصاديا ومرة أخرى يعرض وساطته بين الطرفين المتحاربين، مرة يعلن تفهمه للمخاوف التركية الأمنية التى تتهددها خلف الحدود السورية من جماعات كردية توصف بـ«الإرهابية»، ومرة أخرى يتذكر أن هذه الجماعات حليفته الرئيسية فى التمركز بالأراضى السورية أثناء الحرب على داعش، وأنه هو الذى أمدها بالسلاح ودربها وأعدها ربما لنوع من تقسيم الأراضى السورية فى المستقبل.
ما الذى يريده «ترامب» بالضبط؟
الإجابات تدور تقريبا حول الوضع الداخلى وأزمات الرئيس المتفاقمة مع مجلس النواب الأمريكى فيما أشباح عزله تلوح فى جنباته، بأكثر من الأوضاع المعقدة فى سوريا، التى يرى أنها بلا نهاية، كمثل كل أزمات الشرق الأوسط، وأن الانخراط فيها مضيعة للوقت، وهو تصور لا يوافقه عليه البنتاجون ولا المؤسسة التشريعية ولا القطاع الأغلب من أنصاره فى الحزب الجمهورى نفسه.
وما الذى يريده «أردوغان» بالضبط من مغامرته العسكرية؟
هناك ما هو معلن عن مخاوف أمنية تجد تعبيرها المباشر فى طبيعة العلاقات التى تجمع القيادات الكردية المهيمنة على قوات «سوريا الديمقراطية» مع حزب العمال الكردستانى الذى يقاتل الحكومة التركية ويدعو لانفصال أكراد تركيا، الذين يمثلون كتلة كبيرة من السكان.
وهناك ما هو غير المعلن، ويتعلق باهتزاز الوضع الداخلى للرئيس التركى، وسعيه عبر التصعيد العسكرى إلى حشد المشاعر القومية خلفه وترميم صفوف مناصريه، إثر الانشقاقات المدوية بحزبه «العدالة والتنمية» بعد الخسارة الفادحة فى انتخابات إسطنبول بما تحمله من دلالات رمزية، حيث هو نفسه صاحب تعبير «من يحكم إسطنبول يحكم تركيا».
وقد كان لافتا إطلاق اسم «نبع السلام» على عملية عسكرية أقرب إلى الغزوات الاستعمارية، كأنه رجل سلام تفيض حكمته على العالم، أو أن يصف جيشه العلمانى بإرثه ونص الدستور بأنه «الجيش المحمدى» فى نوع من تجييش المشاعر الدينية، كأنه خليفة للمسلمين يباشر فتحا، رغم أن الطرف الآخر «الكردى» مسلم سنى والموضوع كله لا علاقة له بالدين.
بمزيج من الحسابات الأمنية والهلاوس الشخصية تبدو العملية العسكرية التركية فى الشمال السورى أقرب إلى مقامرة يتوقف المستقبل السياسى لـ«أردوغان» عليها.
كأى مقامرات سياسية فإن حصادها يتوقف على قدر ردات الفعل الإقليمية والدولية
ومستويات تأثيرها فى حركة الأحداث وموازينها.
ربما فوجئ «أردوغان» بشبه الإجماع الدولى على رفض العمل العسكرى الذى باشره فى الشمال السورى، وحجم التخوف من أية نزعة للتطهير العرقى ضد الأكراد، كما خشية ما قد يلحق بالمدنيين من كوارث إنسانية وموجات نزوح تتوقع بعض المنظمات الدولية أن تصل إلى نحو (300) ألف نازح.
من اللافت أن مثل هذه الاعتراضات تبناها «أردوغان» كثيرا لتسويغ رفضه لأية أعمال عسكرية يقوم بها الجيش السورى فى مواجهاته مع «داعش»، أو «جبهة النصرة» التى ترتبط بعلاقات وثيقة مع جهاز استخباراته.
ومن بين دواعى التخوفات الدولية أن تفضى العملية العسكرية إلى إعادة تمركز «داعش» فى هذه المنطقة، أو احتمال هروب عشرات المئات من معسكرات الاحتجاز التى تتولاها قوات «سوريا الديمقراطية» إذا ما تركت حراستها تحت ضغط تدهور موقفها العسكرى.
على خلفية تلك التخوفات تبدت مشاحنات عالية النبرة بين الاتحاد الأوروبى و«أردوغان»، الذى أفلت عياره مهددا أوروبا إذا ما استمرت فى وصف عمليته العسكرية بالغزو أو الاحتلال أن يطلق عليها ثلاثة ملايين و(600) لاجئ!
رغم الضجر الأوروبى فإن موقفها لم يتعد طلب ضبط النفس ووقف التصعيد ووضع حد للعملية العسكرية وضمان سلامة المدنيين ووحدة الأراضى السورية.
رغم ذلك السقف المتواضع نسبيا فى إدانة العملية العسكرية لم يتمكن مجلس الأمن من مجرد إصدار بيان رئاسى يعبر عن إرادة المجتمع الدولى.
لكل لاعب دولى أو إقليمى حسابات تخصه، الإدارة الأمريكية لا تريد أن تقطع صلاتها مع الحليف التركى، والكرملين يريد أن يستثمر فى الأزمة، ألا يخسر شريكه فى صيغة «آستانة» عارضا الوساطة بين أنقرة ودمشق، ووساطة أخرى بين دمشق والأكراد، وإيران الطرف الثالث فى تلك الصيغة بدت حذرة فى مستوى إدانة العملية التركية خشية أن يؤثر أى صدام على مستوى التحالف والعلاقات الاقتصادية بينهما.
وسط تلك الحسابات لا دور كبير للاتحاد الأوروبى، وأقصى ما طالب به حلف «الناتو» الذى تعتبر تركيا إحدى ركائزه، منع التصعيد وضبط النفس كأنه حكم فى مباراة لا تحالف عسكرى.
فيما يشبه الإجماع أعلنت الدول العربية، باستثناء قطر، رفض العملية العسكرية دون أن تتوافر لديها مقومات التأثير المباشر والميدانى فى حركة الأحداث وموازينها المتحركة.
أكثر الأسئلة الجوهرية الآن: متى وأين تتوقف العملية العسكرية؟.. وما حسابات القوى والمصالح المتعارضة بعدها؟.. وما مدى تأثيرها على العملية السياسية التى توشك أن تأخذ منعطفا جديدا ببدء عمل اللجنة المخولة بوضع دستور سورى جديد آخر هذا الشهر فى جينيف تحت رعاية الأمم المتحدة.
على الأغلب لن تتعدى العملية العسكرية التركية حدود ما كان متفقا عليه مع الإدارة الأمريكية للمنطقة العازلة بعمق ثلاثين كيلو مترا لتخفيف الضغوط الدولية.
وعلى الأغلب لن يكون هناك مركز فى المنطقة الآمنة ينقل إليه مليون لاجئ، حيث أعلن الاتحاد الأوروبى عدم استعداده لتمويله، فضلا عن أن الاقتصاد التركى المنهك والمهدد بالعقوبات لا يمكنه الاضطلاع بهذه المهمة المكلفة.