بقلم - عبد الله السناوي
ككل حوادث الاختفاء المماثلة يصعب التوصل إلى الحقيقة الكاملة فى غضون أيام وأسابيع، وقد تمتد ظلال التكتيم لسنوات وعقود.
استغرقت قضية اختطاف ومقتل الزعيم المغربى «المهدى بن بركة» فى فرنسا منتصف ستينيات القرن الماضى سنوات طويلة تأكد بعدها تورط أجهزة أمنية للدولة التى يفترض أن تحميه فى الجريمة الشنيعة.
وكان لتكشف الحقيقة تأثير هائل على المستقبل السياسى للمغرب، نبذت صفحة الماضى الدموى، جرت مراجعات تاريخ وتغيرت معادلات حكم.
واستغرقت قضية اختطاف وزير الخارجية الليبى الأسبق «منصور الكخيا» فى تسعينيات القرن الماضى من أمام فندق قاهرى سنوات طويلة أخرى حتى عثر على جثته عام (2012) بعد سقوط نظام العقيد «معمر القذافى» دون أن تستبين حتى الآن القصة الكاملة ولا لقى المتورطون أى عقاب.
كان لهذا الاختطاف تأثير بالغ السلبية على سمعة النظام الليبى وألقى بظلال كثيفة على مستقبله.
قدر أكبر من الغموض اكتنف اختفاء الإمام «موسى الصدر» فى ليبيا قرب نهاية السبعينيات ولا أحد يعرف حتى الآن ما الذى جرى بالضبط ولا كيف لقى مصرعه رغم متغيرات الحوادث العاصفة.
وقد أفضت تداعياته إلى ما يقارب التدمير الكامل للعلاقات الليبية اللبنانية.
بدرجة أخرى من الخطورة تبدت تساؤلات وتكهنات فى قصة اختفاء «رضا هلال» الصحفى بجريدة «الأهرام» عام (2003) مع بزوغ سيناريو التوريث فى مصر.
وقد كان ذلك الاختفاء بظروفه وأجوائه وما تواتر حوله من روايات مرسلة أحد علامات تقوض سمعة نظام الحكم.
رغم إطاحة نظام الرئيس الأسبق «حسنى مبارك» بعد ثورة «يناير» فإن ستائر الكتمان على قصة اختفائه ما زالت مسدلة ولا كشفت حقيقة واحدة.
يصعب القول إن مصيرا مشابها سوف تلقاه قضية اختفاء الصحفى السعودى «جمال خاشقجى» من داخل قنصلية بلاده فى إسطنبول.
حجم التغطية الإعلامية الدولية داع أول للاعتقاد بأنه يصعب إغلاق الملف فى أى مدى منظور بمقايضات المصالح فى الكواليس، فكل تصرف وإجراء وقرار يخضع للمتابعة تحت أضواء الكاميرات.
وقضية حرية الصحافة وحماية الصحفيين داع ثان للاستنفار فى المنظمات الحقوقية والصحفية الدولية طلبا للحقيقة حيث تحظى هذه القضية بنوع من الإجماع يصعب غض الطرف عنه أو التقليل من أثره داخل مراكز صناعة القرار حيث يضغط الصحفيون فى كل مؤتمر صحفى بالسؤال والاستفسار عن المواقف التى تتخذها حكوماتهم.
والتوظيف السياسى للحدث المأساوى داع ثالث للاعتقاد بأن أحدا لن يأخذ موقفا مجانيا، لا بالصمت ولا بالتبرير، إذ تبدو الفرصة سانحة أمام بشاعة ما جرى لتصفية حسابات أو جنى مغانم.
بصورة أو أخرى فإن هناك سباقا مكتوما سوف تجرى وقائعه بين المصالح والمبادئ، ولكل طرف إقليمى أو دولى حساباته.
بعد أسبوع كامل من اختفاء «خاشقجى» أبدت الإدارة الأمريكية اهتماما بالحدث شمل الرئيس ونائبه ووزارة خارجيته، وتواترت تعليقات رسمية من الأمم المتحدة إلى الدول الكبرى فى الاتحاد الأوروبى تطلب وتلح على إجراء تحقيق شفاف وكشف ملابسات الجريمة وعقاب المتورطين فيها.
هكذا وجدت السعودية وتركيا بدرجتين مختلفتين نفسيهما فى مأزق إدارة أزمة أنفاس العالم تتردد فى جنباتها.
المعضلة السعودية: كيف تثبت عدم تورطها فى حادث الاختفاء؟
والمعضلة التركية: كيف تحمى هيبة أمنها من التقويض بأثر الحادث؟
هناك روايات ترجح، وعليها شواهد وقرائن، فرضية الاحتجاز القسرى لـ«جمال خاشقجى» داخل القنصلية السعودية فى إسطنبول قبل اختفائه نهائيا دون أن يكون بوسعها الجزم بما جرى فعلا.
باليقين فإنه قد دخل إلى مقر القنصلية لإنهاء أوراق تتطلبها إجراءات زواجه من سيدة تركية.
الكاميرات التقطت صورا له وهو يخطو داخلها عبر بوابتها الخارجية، نشرتها صحيفة «الواشنطن بوست»، التى كان يكتب فيها، دون أن تتوافر أية صور مماثلة لخروجه تنفى فرضية احتجازه القسرى.
ما حصلت عليه الصحيفة الأمريكية الشهيرة تسريب من السلطات الأمنية التركية فيما أعلن السفير السعودى فى واشنطن أن كاميرات القنصلية لم تكن تعمل يوم دخول «خاشقجى» إليها.
على من تقع مسئولية كشف الحقيقة؟ ــ السلطات السعودية التى وقعت حادثة الاختفاء داخل إحدى بعثاتها الدبلوماسية أم السلطات التركية التى يشكك الحادث فى قدرتها على حماية حياة زوارها؟
ما الذى جرى بالضبط داخل القنصلية؟
هذا موضوع أى تحقيق شفاف فى الحادث يطالب به العالم ولم يعد هناك مناص منه.
يصعب توقع أن تفضى الموافقة السعودية على تفتيش مقر القنصلية من سلطات التحقيق التركية إلى إجلاء أى حقيقة، لكنها خطوة فى تعاون لازم لوضع الأمور فى نصابها.
هناك تساؤلات عديدة تستدعى الإجابة عليها والإلمام بخفاياها.
هل ذهب «جمال خاشقجى» إلى القنصلية بترتيبات وتطمينات مسبقة أم لا؟
ما طبيعة التطمينات التى حصل عليها؟
حسب تسجيل صوتى قبل الحادث بثته الـ«بى بى سى» لم يكن مطمئنا على سلامة حياته، لم يصف نفسه بأنه معارض لكنه وجد نفسه مطاردا.
بطبيعة تجربته السياسية والصحفية فهو ابن المؤسسة السعودية، عمل بجوار بعض أركانها مستشارا مقربا، وتولى مناصب صحفية وإعلامية بمباركتها.
شىء من الاتصالات جرت، فلا يعقل أن يذهب إلى القنصلية دون ترتيبات مسبقة، يدخل ويخرج بالأوراق التى طلبها دون سلام أو كلام.
هذا احتمال مرجح يعترضه أنه ترك هاتفه الجوال مع خطيبته التركية التى كانت تنتظره خارج القنصلية طالبا منها أن تتصل بمسئول تركى بعينه إذا ما تأخر خروجه.
أين الحقيقة؟
بافتراض أنه كانت هناك ترتيبات مسبقة لزيارته للقنصلية فمن الطبيعى أن أحدا ما أخذ علما واتخذ قرارا.
من هو؟.. ولماذا «خاشقجى»؟.. وما هو الخطر الداهم الذى يمثله حتى يجرى التخلص منه؟
لا توجد إجابة حتى الآن للطريقة التى جرى بها التخلص منه.
تسريبات وقصص متضاربة الإثارة فيها تغلب التدقيق، الذى يفترض أن يتولاه التحقيق.
أحد الفرضيات التى شاعت فى المساجلات المفتوحة أن طرفا ثالثا سعى من وراء الحادث إلى إفساد العلاقات التركية السعودية.
لا تستند هذه الفرضية إلى ما يسند ويقنع، فالعلاقات متوترة أصلا وتشوبها احتقانات معلنة زادت مع تفاقم الأزمة الخليجية وانحياز تركيا إلى قطر واحتضان جماعة «الإخوان المسلمين» على أراضيها.
لم يكن الأمر كذلك عند تولى العاهل السعودى «سلمان بن عبدالعزيز» السلطة فى بلاده عقب رحيل شقيقه الملك «عبدالله بن عبدالعزيز».
أرجو أن نتذكر أن الرئيس التركى «رجب طيب أردوغان» كان أول من زار الرياض مهنئا، وترددت تكهنات قوية باحتمال فتح صفحة جديدة تخفض بمقتضاها العلاقات مع مصر وتفتح نافذة سياسية ما على الجماعة.
وكان «جمال خاشقجى» أعلى الأصوات تبنيا لهذا الخيار، الذى أخفق سريعا.
الحقائق تقوض نظرية الطرف الثالث.
لا يعنى أن جهات وجماعات بعينها تنحاز إلى تركيا وتناهض السعودية أنها متورطة فى الحادث، لكنها تحاول توظيفه سياسيا بمقتضيات المناكفة السياسية.
بين التورط والمناكفة والتوظيف تخضع قضية «خاشقجى» لسيناريوهات متضاربة فوق المائدة وتحتها، طلبا للحقيقة أحيانا وانتصافا للضحايا أحيانا أخرى أو سعيا للمصالح على حساب أى قيمة إنسانية فى أغلب الأحيان.
نقلا عن الشروق
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع