بقلم - عبد الله السناوي
أفضل ما يتبقى من الثورات الأهداف التى تبنتها والأحلام التى أطلقتها وقدرتها الكامنة على إلهام الإرادة العامة.
هذا شأن ثورة (25) «يناير» فى مصر رغم أية سجالات ونزاعات حول شرعيتها.
التنازع على الشرعية يصاحب دوما انكسار الثورات.
حدث ذلك فى كل التجارب الإنسانية الحديثة بلا استثناء واحد.
من الخطأ الفادح النظر إلى الثورات على أنها محض مؤامرات وأحداث فوضى.
إذا ما لخصت الثورة الفرنسية فى مشاهد العنف المفرط والمقاصل التى علقت فإننا لا نكاد نعرف عنها شيئا.
كانت نقطة تحول فاصلة فى التاريخ الإنسانى؛ حيث أفضت إلى صعود طبقات جديدة وأفكار جديدة وذبول طريقة فى الحكم تنتسب إلى القرون الوسطى الأوروبية.
بعد سنوات طويلة من الاضطرابات والانتفاضات والانقلابات فى بنية السلطة استقرت فرنسا كجمهورية دستورية حديثة وسرت مبادئها فى أنحاء العالم.
لم تكن تلك النقلة الكبرى منحة من أحد بقدر ما كانت أثرا محتما لمبادئ الثورة.
المبادئ لا المقاصل هى التى انتصرت فى النهاية.
الدساتير لا الفوضى هى من فرضت كلمتها.
لعبت مبادئ الثورة الفرنسية، التى أسست لليبرالية والحريات العامة فى التاريخ الإنسانى الحديث، أكثر الأدوار إلهاما فى صياغة العهد الدولى للحقوق السياسية والمدنية الذى أقرته الأمم المتحدة.
كان ذلك أفضل ما تخلف عن الثورة الفرنسية.
بذات القدر فإن أفضل ما ينسب للثورة البلشفية فى قلب الإمبراطورية الروسية عام (1917) أنها ساعدت على نحو جوهرى فى طرح قضية العدل الاجتماعى بأفق جديد غير مسبوق.
كانت أول ثورة اشتراكية فى التاريخ الإنسانى.
ساعدت تجربتها بأوفر الأدوار فى التأسيس للعهد الدولى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
تحت ضغط الأفكار الاشتراكية طورت الرأسمالية من نفسها، ونشأت فى كنف الدول الغربية حركات جديدة أطلق عليها «الشيوعية الأوروبية» ـ بتأثير أفكار رجال من حجم «تولياتى» و«جرامشى» فى إيطاليا ـ دمجت ما بين الفكرتين الاشتراكية والديمقراطية.
نشأت فى أوروبا الشرقية نزعة قوية أطلق عليها «الاشتراكية بوجه إنسانى» تجسدت فى «ربيع براج» إثر وصول «إلكسندر دوبتشيك» إلى السلطة زعيما للحزب الشيوعى التشيكوسلوفاكى.
تبنى تجديد الاشتراكية ونزع ثقافة الخوف وإشاعة الديمقراطية والحريات الصحفية، لكن مشروعه جرى سحقه بدبابات «حلف وارسو»، الذى كان يقوده الاتحاد السوفيتى، فى أغسطس (١٩٦٨).
أفلتت فرصة تصحيح فى بنية المنظومة الاشتراكية، وكانت النهايات محتمة.
من زاوية ما ـ صحيحة وموضوعية ـ أسست الثورة البلشفية، بكل ما حملته من تجربة فى الحكم، وما تولد عنها من سياسات وما تبنته من استراتيجيات لانقلاب كامل فى بنية النظام الدولى بدأت مقدماته قبل نهاية الحرب العالمية الأولى بعام واحد واستكملت حقائقه بعد الحرب العالمية الثانية.
انقسم العالم أيديولوجيا واستراتيجيا واقتصاديا إلى معسكرين كبيرين بعد انتهاء الحرب الأخيرة.
تصارع على النفوذ قطبان عظميان هما الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة فيما يعرف بـ«الحرب الباردة»، التى انتهت بانهيار سور برلين وتقوض حلف «وارسو» ـ الذى كان يقابل حلف «الناتو» على الجانب الآخر.
فى سنوات ما بين نهاية الحرب العالمية الثانية وانهيار سور برلين شمل نفوذ الاتحاد السوفيتى شرق أوروبا، التى اجتاحها الجيش الأحمر، والشرق الأقصى، حيث انتصرت الثورة الصينية وحاربت الثورة الفيتنامية، واصلا إلى القارتين الإفريقية التى طلبت حركات تحريرها الاستقلال الوطنى، واللاتينية التى رفعت سلاح حرب العصابات ضد الهيمنة الأمريكية ـ كما حدث فى كوبا.
لم يكن العالم العربى خارج الاستقطاب الفكرى والسياسى، الذى صاغ تلك المرحلة.
حاولت مجموعة دول عدم الانحياز بقيادة «جمال عبدالناصر ـ مصر» و«جواهر لال نهرو ـ الهند» و«جوزيب بروز تيتو ـ يوغوسلافيا» اختراق النظام الدولى الثنائى القطبية وتأسيس آخر وفق مبادئ «باندونج».
استندت شرعية ثورة (23) «يوليو» على فكرة استقلال القرار الوطنى التى تولدت عنها سياسات اجتماعية غيرت من بنية المجتمع المصرى وتركيبته الطبقية وأفضت إلى أوسع حراك اجتماعى فى تاريخه كله.
استعصت «يوليو» على الحملات عليها بقدر الأحلام التى أطلقتها، أو وضعتها على أرض.
لم تكن تجربة هشة حتى تقتلعها هبات ريح أو جموح عواصف.
مشكلة «يوليو» الحقيقية أنها لم تؤسس لبنية دستورية تحفظ أهدافها ومبادئها التحررية والاجتماعية.
هكذا أمكن الانقلاب عليها من داخل بنية نظامها.
فى أعقاب يونيو (1967) دعا «جمال عبدالناصر» فى مراجعاته الموثقة بمحاضر رسمية إلى المجتمع المفتوح ودولة المؤسسات وانتقد الأسباب التى أدت إلى الهزيمة وعلى رأسها ما أسماه «النظام المقفول» الذى تتحكم فيه مراكز قوى ونفوذ داخل مؤسسات الدولة الحساسة بلا رقيب ولا حسيب.
من ثغرات «يوليو» جرى الانقضاض على مشروعها.
«يوليو» الثورة المصرية الوحيدة التى حكمت وأخذت وقتها لإنضاج مشروعها واتسعت أدوارها فى محيطها العربى وقارتها الإفريقية وعالمها الثالث.
حاربت وحوربت، انتصرت وانكسرت، لكن ما تبقى من قيم ومبادئ كرستها يظل مهلما ومؤثرا فى المخيلة العامة رغم الطعنات التى لا تتوقف.
لم يكن ذلك هو مسار الثورة العرابية، التى اكتسبت شرعيتها من رفض التمييز ضد المصريين، فقد تعرضت للإجهاض المبكر بالعمل العسكرى البريطانى عام (1882)، الذى أفضى إلى احتلال مصر لأكثر من سبعين سنة.
كما لم يتسن لـ«الوفد» حزب الأغلبية الشعبية الذى تأسس فى خضم ثورة (1919) أن يحكم مصر إلا لسنوات قليلة متقطعة فى ثلاثة عقود سبقت ثورة «يوليو».
ثورة (1919) اكتسبت شرعيتها من هدفيها الرئيسيين: الاستقلال والدستور.
جرى الالتفاف على الأول والتلاعب الثانى.
ألغى دستور (1923)، إنجازها الأبرز، بانقلاب ملكى ووضع دستور جديد فى (1930)، سرعان ما سقط بقوة الرفض الشعبى.
عاد دستور (1923) غير أن التلاعب به لم يتوقف.
أفضى ذلك فى النهاية إلى إطاحة النظام الملكى كله.
ليست هناك فى التاريخ الإنسانى الحديث ثورة واحدة مثالية مبرأة من الأخطاء والخطايا.
هذه نصف الحقيقة وليست الحقيقة كلها، فقد كانت نقلات كبرى أخذت شعوبها إلى أفاق جديدة وأحتفظ التاريخ الإنسانى بإلهامها عبر العصور.
الإلهام هو جوهر ما يتبقى من الثورات.
إنها مسألة روح عامة يصعب نفيها، أو تجاوزها.
وقد كانت ثورة «يناير» ملهمة لفكرة الانتقال من عصر إلى عصر والتحول إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة.
لكل ثورة أسباب استدعتها تعبيرا عن أزمان وعصور واحتياجات.
كانت ثورة (1919) بنت ما بعد الحرب العالمية الأولى وارتفاع نداءات حق تقرير المصير، وثورة (1952) بنت ما بعد الحرب العالمية الثانية وطلب التحرر الوطنى والعدالة الاجتماعية.
ثورة «يناير» (2011) هى بنت هذا الزمان ثورة المعلومات والاتصالات الحديثة، ولا أحد بوسعه أن يتحدى حقائق زمانه، أو أن ينكر إلهامها تحت الجلد السياسى والاجتماعى مهما طال الزمن.
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع