توقيت القاهرة المحلي 23:03:27 آخر تحديث
  مصر اليوم -

التداعيات المحتملة للانفجار اللبنانى

  مصر اليوم -

التداعيات المحتملة للانفجار اللبنانى

بقلم: عبد الله السناوي

لكل أزمة مستحكمة تاريخ يصعب تجاوز مواريثه فيما يحدث ويستجد من مآس وكوارث سياسية وإنسانية.
ذلك حال الأزمة اللبنانية المتفاقمة تحت وهج الانفجار، الذى دمر نصف بيروت وروع أهلها وقوض ثقتها فى مستقبلها.
لم تنشأ الأزمة بتداعيات التدهور الاقتصادى وانهيار سعر الليرة وارتفاع معدلات البطالة وغلاء أسعار السلع الأساسية.
هذه تجليات الأزمة، لا الأزمة نفسها.
ولا نشأت بتداعيات الانتفاضة اللبنانية فى (17) أكتوبر (2019)، التى أجهضت بالتوظيف السياسى الزائد لتصفية حسابات، أو خشية نتائجها على مصالح استقرت حتى كادت تزهق روح البلد وقدرته على البقاء.
وهذه أوضاع انسداد سياسى يصعب تجاوزه دون تغيير فى البيئة العامة وبنية الحكم نفسها.
كان الانفجار بتداعياته تجسيدا لفشل الدولة بكل مكوناتها والأطراف الفاعلة فى معادلاتها، لا الحكومة وحدها.
إذا ما سقطت الحكومة بدواعى امتصاص الغضب الشعبى وبقيت المعادلات السياسية على حالها، وأعاد النظام الطائفى إنتاج نفسه فإنه ليس بوسع لبنان أن يتطلع إلى مغادرة أزمته المستحكمة.
تغيير الجياد ليس حلا فى بلد دفع أثمانا باهظة لتقاسم النفوذ والثروة والسلطة بين نخب طائفية تتغير وجوهها عبر الأزمان دون أن تمس قواعد اللعبة السياسية أية تعديلات جراحية فى بنيته التى تقادمت عليها العقود.
الأزمة اللبنانية تعود إلى نشأة الدولة نفسها.
أرجو ألا ننسى أن الجنرال الفرنسى «جوزيف أوجين غورو» هو من أعلن «لبنان الكبير» كدولة مستقلة وأعاد ترسيم حدودها بقوة السلاح معلنا فرض الانتداب على البلدين الممزقين سوريا ولبنان بعدما كانا دولة واحدة.
كان ذلك فى سبتمبر (1920) بعد أن صمتت مدافع الحرب العالمية الأولى وفق تفاهمات بريطانية ــ فرنسية جرت قبل أربعة أعوام (1916) عرفت باسم اتفاقية «سايكس ــ بيكو».
فى وقت متزامن جرى فرض الانتداب البريطانى على فلسطين والعراق، وكانت النتائج كارثية على الفلسطينيين، التى شهدت بلادهم عام (1948) نكبتها الكبرى.
لم ينشأ لبنان بإرادة اللبنانيين، ولا كانوا هم من أعلنوا دولتهم المستقلة.
هذه حقيقة أولى مازالت آثارها وظلالها ممتدة حتى اليوم فى صلب الأزمة المستحكمة.
وأرجو ألا ننسى أن الدول الغربية الكبرى استثمرت فى الصدامات الدموية التى نشبت منتصف القرن التاسع عشر بين الدروز والموارنة لطرح فكرة إنشاء «إمارة كاثوليكية».
بشهادة القنصل الروسى فى بيروت «قسطنطين بازيلي»، الذى كان متواجدا فى قلب الحوادث وموثقا لوقائعها: «لم تكن العداوة الدينية سبب الاحتراب بل نتيجة لها».
هذه حقيقة ثانية تكشف ما جرى من تفكيك وإضعاف للعالم العربى استثمارا فى ثغرات مجتمعاته.
فى عام (1932)، بعد إعلان «لبنان الكبير» باثنى عشر عاما، جرى توزيع المناصب الرسمية والمراكز العليا بين الطوائف وفق نسبة كل منها إلى التعداد العام للسكان، الذى أجرى وقتها.
كانت النسبة الأكبر للمسيحيين، غير أن النسب تعدلت فى ضوء ما أسفرت عنه الحرب الأهلية اللبنانية منتصف سبعينيات القرن الماضى من حقائق وتوازنات عبرت عن نفسها فى اتفاقية «الطائف» عام (1989).
وفق تلك الاتفاقية أصبحت المحاصصة مناصفة بين الطوائف المسيحية والمسلمة.
من عصر لآخر أعاد النظام الطائفى إنتاج نفسه حتى استنزف طاقته على البقاء دون أن يغادر مواقع السلطة والنفوذ لتغلغل المصالح المرتبطة به فى بنية المجتمع اللبنانى، كما فى أهداف اللاعبين الإقليميين والدوليين.
هذه حقيقة ثالثة تخيم على المستقبل اللبنانى وتجعل من إعادة بناء الأمل بإلغاء النظام الطائفى مهمة عسيرة.
أخطر ما يعترض لبنان الآن تقوض أية ثقة فى الدولة والنخب السياسية التى تتنازع المناصب والنفوذ على خلفيات طائفية.
علت أصوات عديدة تطلب التحقيق الدولى فى حادث مرفأ بيروت المروع للوقوف على أسبابه الحقيقة، من يتحمل مسئولية ما جرى، وإذا ما كان مدبرا أو أن وقائعه جرت بالإهمال الجسيم فى توفير إجراءات الأمان.
كان ذلك تعبيرا عن فجوات ثقة هائلة مع الحكومة اللبنانية، التى أعلنت بدء التحقيقات، وأنها سوف تعلن نتائجها خلال أيام، إلا أن أحدا لا يبدو مستعدا أن يصدق تعهداتها، أو ما قد تتوصل إليه.
هذه مأساة كاملة فى بلد فقد بوصلته السياسية وتتضارب نزعاته فيما هو يصارع الغرق.
لم يكن ممكنا لأحد من أركان الحكم أن يذهب للمواضع الأكثر تضررا من الانفجار خشية الغضب الشعبى.
ولا بدا أن أحدا مستعد لتحمل مسئوليته بالاستقالة، رغم أنها لا تقدم ولا تؤخر إذا ما بقيت المعادلات الحاكمة على حالها.
من أسوأ ما جرى بعد الانفجار ارتفاع منسوب المناكفات السياسية بين الفرقاء، رغم أنهم يتحملون بدرجات مختلفة مسئولية ما وصل إليه لبنان من أحوال كارثية تقارب الانهيار.
بدواع استراتيجية وإنسانية تدافعت قوى عربية وغربية عديدة لمد يد العون للبنان، بعضها مدفوعة بالتعاطف والتضامن وبعضها الآخر سعيا لتوظيف الانفجار وفق مصالحها الاستراتيجية فى هذه المنطقة من العالم.
هناك فارق جوهرى بين الدواعى الإنسانية والحسابات الاستراتيجية، بين ضرورات إنعاش الاقتصاد المأزوم الذى يوشك على الإفلاس والتوظيف السياسى لأية تدفقات مالية محتملة فى إعادة ترتيب شبكه المصالح الاستراتيجية والاقتصادية.
أرجح الاحتمالات بعد انقضاء أحاديث العلاقات العامة أن أحدا لن يضخ دولارا واحدا بلا اشتراطات مسبقة تخضع لبنان لما يريده هو من حسابات ومصالح لا لما يصلح أحواله أهله ببناء نظام جديد يلغى المحاصصة الطائفية ويحارب الفساد المستشرى.
بالتقديرات الرسمية الأولية فإن حجم الخسائر المترتبة على الانفجار تتراوح بين عشرة وخمسة عشر مليار دولار.
من يسدد الفواتير؟.. وما الأثمان المقابلة؟
أيهما أولا: الإصلاح السياسى أم الإصلاح الاقتصادي؟
تلك إشكالية مستحكمة، فلا غنى لأحدهما عن الآخر.
إذا لم تتوفر خريطة طريق متماسكة ومقنعة فإن الأزمة المستحكمة سوف تتمدد إلى المستقبل بمخاطر يصعب تجنبها على وجود البلد نفسه.
أسوأ ما جرى على الإطلاق وسط أزمة وجودية خانقة الدعوة بصوت مرتفع مسموع لعودة الانتداب فى بيان موقع من نحو (36) ألف لبنانى أثناء زيارة الرئيس الفرنسى «إيمانويل ماكرون».
الدعوة بنصها وتوقيتها تعبير عن عمق الأزمة، وأنها ربما تتجاوز أية محرمات، كأن ضربة على الدماغ أفقدت بعض مكونات البلد اتزانه السياسى والنفسى بما قد يقوض السلم الأهلى بأخطر مما جرى فى الحرب الأهلية.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

التداعيات المحتملة للانفجار اللبنانى التداعيات المحتملة للانفجار اللبنانى



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 21:27 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

كريستيانو رونالدو يدرس تأجيل اعتزاله للعب مع نجله
  مصر اليوم - كريستيانو رونالدو يدرس تأجيل اعتزاله للعب مع نجله

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 10:24 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

اليونان تمزج بين الحضارة العريقة والجمال الطبيعي الآسر

GMT 09:20 2024 الخميس ,08 شباط / فبراير

نصائح لعرض المنحوتات الفنية في المنزل

GMT 04:36 2024 الإثنين ,14 تشرين الأول / أكتوبر

فئات مسموح لها بزيارة المتحف المصري الكبير مجانا

GMT 15:44 2021 الجمعة ,22 تشرين الأول / أكتوبر

تفاصيل حوار باتريس كارتيرون مع رزاق سيسيه في الزمالك

GMT 06:24 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

رينو 5 الكهربائية الجديدة تظهر أثناء اختبارها

GMT 08:54 2017 الأربعاء ,25 تشرين الأول / أكتوبر

نادية عمارة تحذر الأزواج من مشاهدة الأفلام الإباحية

GMT 00:03 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

كيت ميدلتون ترسل رسالة لنجمة هندية بعد شفائها من السرطان

GMT 07:36 2024 الإثنين ,28 تشرين الأول / أكتوبر

ياسمين صبري تتألق بالقفطان في مدينة مراكش المغربية
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon