الحرب فى سوريا حسمت وإدلب المعركة الأخيرة.
هكذا تبدو الصورة الميدانية قبل انطلاق العملية العسكرية المتوقعة.
بتعبير لافت لوزير الخارجية الفرنسى «جون إيف لودريان» فإن «الأسد ربح الحرب لكنه لم يفز بالسلام».
فى الكلام إقرار بالهزيمة العسكرية وسعى فى نفس الوقت لممارسة الحد الأقصى من الضغوط السياسية الممكنة حتى لا تتقوض أى مصالح استراتيجية غربية فى الصراع الدامى على سوريا.
رغم الأجواء الملتهبة فإن هناك إطارا عاما شبه متماسك لقواعد الاشتباك يحكمه موازين سلاح ومصالح وحسابات لما بعد المعركة.
لا توجد منازعة ــ تقريبا ــ فى أن تكون هناك ضربة عسكرية للجماعات المتشددة فى إدلب.
موضوع المنازعة هو حجمها ومداها.
رئيس هيئة الأركان الأمريكية الجنرال «جوزيف دانفورد» نصح بتنفيذ عمليات محدودة ضد المتشددين، كأنه يصوغ عسكريا ما طلبه «دونالد ترامب» سياسيا فى تغريدة اعتبرت الهجوم الواسع على إدلب تهورا وخطأ إنسانيا جسيما، رغم أنه لم يعهد عن الرئيس الأمريكى أى اهتمام سابق بالاعتبارات إنسانية.
الصراع سياسى بقدر ما هو عسكرى، لا هو أخلاقى ولا حقوقى يخشى من تبعات عملية شاملة على حياة مئات آلاف المدنيين.
وقد كان لافتا الطريقة التى استقبل بها الكرملين تغريدة «ترامب»، شكك فى جدواها، فهى لا تمثل حلا منهجيا لأزمة إدلب فضلا عن أنها تعرقل مكافحة الإرهاب، دون أن يقع فى مطب أن يبدو غير مكترث بمصير ثلاثة ملايين سورى مدنى يعيشون فى إدلب، نصفهم من النازحين.
هذه نقطة حساسة وعلى درجة عالية من الأهمية، لكنها تستخدم لتوفير نوع من الحماية لجماعات إرهابية.
إلى حد كبير سوف تحدد الطريقة التى تحسم بها معركة إدلب أوزان القوى الأخيرة قبل أى تسوية سياسية فى نهاية المطاف، وما قد تلعبه الأطراف الدولية والإقليمية المتصارعة من أدوار وما تحوزه من مصالح.
حجم ومدى المعركة المتوقعة موضوع تنازع آخر داخل «تحالف الضرورة» الذى يجمع روسيا وإيران وتركيا.
لكل طرف تقديرات وحسابات تختلف عن الآخر لكنها تجد نفسها فى معسكر واحد يحاول أن يرفع سقف مشتركاته.
قبل حسم حجم ومدى معركة إدلب تبدو قمة طهران، التى تعقد غدا (الجمعة) بمشاركة قادة روسيا وإيران وتركيا، كاشفة لحقائق التحالفات وحدودها وطبيعة التباينات ومنزلقاتها.
هناك خياران رئيسيان أمام القمة، ولن يكون القرار سهلا بالنظر إلى الحسابات المتعارضة.
الأول ــ اقتحام إدلب بعملية عسكرية كبيرة وشاملة من جميع المحاور مع قصف جوى روسى يمهد ويغطى ذلك الاقتحام.
والثانى ــ عملية محدودة تنشئ حزاما أمنيا يمتد من جسر الشغور شمالا إلى جنوب إدلب دون اقتحام مركزها.
الخيار الأول يتبناه نظام الرئيس «بشار الأسد» وحشوده العسكرية متأهبة على تخوم إدلب فى انتظار قرار سياسى، وإيران تدعمه دون مواربة بغض النظر عن أى ضغوط غربية.
إذا ما كانت المعركة مفتوحة فإنها سوف تشمل ما هو أوسع من محافظة إدلب سعيا لحسم باقى المناطق التى ما زالت تقع تحت سيطرة الجماعات المسلحة المتشددة.
وفق تقديرات الأمم المتحدة: عدد مقاتلى جبهة «النصرة» فى إدلب (10) آلاف، بينهم نحو ألفى مقاتل عربى وأجنبى، يسيطرون على (60%) من هذه المحافظة المحاذية لتركيا، التى لا تحبذ هذا الخيار.
من أسبابها أن المعركة المفتوحة تربك استراتيجيتها فى سوريا وقد يتم نزوح أعداد كبيرة من المدنيين إلى أراضيها بما لا تحتمله أوضاعها الاقتصادية المتدهورة.. وأن نتائجها تقوض إلى حد كبير نفوذها داخل المعارضة المسلحة، وبينها الجيش الحر الذى ترعاه بالتمويل والتسليح والتدريب، وتقطع كل الأواصر التى امتدت لسنوات مع جبهة «النصرة».
رغم أن أنقرة صنفت أخيرا جبهة «النصرة» بـ«الإرهابية» إلا أن صلاتها الاستخباراتية ما زالت ممتدة ساعية إلى دفعها لإعلان تفكيكها تجنبا لتصفيتها بالسلاح.
السؤال التركى هو معضلة قمة طهران.
إلى أى حد تبدى استعدادا لبناء قاعدة تفاهمات أرسخ مع شركائها فى «تحالف الضرورة»، الذى وجدت نفسها فيه تحت ضغط أزماتها مع الولايات المتحدة؟
بصياغة أخرى: إلى أى حد تبدى تماسكا أمام الاتصالات الأمريكية المعلنة والخفية للحيلولة دون انخراطها فى خيار المعركة المفتوحة، التى قد تقلب كل المعادلات أملا فى تخفيف الضغوط الاقتصادية عليها والعودة إلى الحلف القديم؟
من المتوقع فى قمة طهران أن تقدم تركيا مقترحات بديلة تعمل على اكتساب وقت إضافى لإنهاء الأزمة بالمفاوضات.
بقدر واقعية المقترحات قد تفسح القمة المجال أمام الاستخبارات التركية لإقناع حلفائها المسلحين السابقين والحاليين بالتفاوض لمغادرة إدلب.
هذه مهمة صعبة وملغمة بقدر ما هو صعب وملغم مشاركة الجيش الحر فى أى قتال بجوار الجيش السورى لتحرير إدلب من حلفائه المنتسبين لجماعات توصف دوليا بالإرهابية.
معضلة السؤال التركى يلقى بظلاله على الموقفين السورى والإيرانى، فلا ارتياح لتناقضاته ولا رغبة فى الصدام معه.
بصياغة وزير الخارجية السورى «وليد المعلم»: «لا نتطلع إلى مواجهة مع تركيا لكن عليها أن تفهم أن إدلب محافظة سورية».
فى التعقيدات السورية التركية تمثل الأزمة الكردية فـ«الأكراد جزء من النسيج الاجتماعى السورى» حسب تصريحات أخرى لـ«وليد المعلم».
تلك النظرة تتناقض مع ما يذهب إليه الرئيس التركى «رجب طيب أردوغان» من دمغ الأكراد السوريين بالإرهاب.
غير أن هناك نقطتين للاتفاق، قد يساعدان مستقبلا على بناء علاقات جديدة، أولاهما ــ الرفض السورى للانفصال والفيدرالية.. وثانيتهما ــ استنكار الرهان الكردى على الولايات المتحدة التى لا تخلص لأحد فى تعهداتها.
أمام التحفظ التركى المتوقع فى قمة طهران لأى عملية عسكرية شاملة فى إدلب يبدو الموقف الإيرانى صارما فى دعم الموقف السورى دون أن يصد نفسه عن أى بدائل عملية يطرحها الأتراك.
النظام السورى نفسه يعتبر «تحرير إدلب أولوية بالعمل العسكرى أو المفاوضات».
اللاعب الروسى فى القمة سوف يكون أميل إلى إدارة التوازنات الحساسة والحسابات المتعارضة للحفاظ على زخم التحالف مع اللاعبين الإقليميين الإيرانى والتركى وتحقيق مصالحه الاستراتيجية التى يحارب من أجلها قبل أى شىء آخر.
لوح بحشود بحرية غير مسبوقة فى البحر المتوسط وأجرى مناورات استهدفت ردع أى تدخل عسكرى أمريكى وأعلن على لسان وزير خارجيته «سيرجى لافروف»: «لن نصبر إلى ما لا نهاية»، وأجهض مسبقا أى ذرائع محتملة لتوجيه ضربات عسكرية لمواقع سورية بادعاء انها استخدمت أسلحة كيماوية.
التلويح الروسى أقرب إلى ألعاب الشطرنج، نظرة على كامل الرقعة قبل تحريك البيادق.
السوريون والإيرانيون لديهم نزعة مشابهة أقرب إلى التصعيد على الحافة مع النظر فى احتمالات التوصل إلى حلول تسمح بإجلاء المسلحين عن إدلب.
بصياغة «لافروف» فإنه إذا ما تم الفصل بين الجامعات المسلحة الإرهابية والجماعات الأخرى يمكن التوصل إلى تسوية سياسية فى إدلب.
هذا سيناريو محتمل لكنه غير مؤكد فى الأمتار الأخيرة قبل إدلب.
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع