بقلم: عبد الله السناوي
تنطوى الحرب مع وباء «كورونا» على ثلاث مفارقات تطرح أسئلتها وهواجسها على عالم تحت الحجر المنزلى الاضطرارى.
المفارقة الأولى، قدر التناقض بين ضرورات «التباعد الاجتماعى» بالمسافة لتجنب الإصابة بالوباء و«التوحد الإنسانى» بالمشاعر تحت ضرباته الموجعة، التى لا تفرق بين الضحايا على أسس عرقية، أو دينية، أو أيديولوجية، أو بما لديهم من ثروة.
المفارقة الثانية، قدر التناقض بين أولوية حفظ حياة المواطنين فى كل دولة وخشية الانهيار الاقتصادى بعد أن تنقضى الجائحة، التى لا يعرف أحد متى تصل ذروتها، أو تنحسر ضرباتها، التى أصابت مظاهر الحياة والحضارة بما يشبه الشلل.
المفارقة الثالثة، قدر التناقض بين ما يجمع دول العالم فى مواجهة وباء واحد يستشرى ويضرب بلا هوادة وسعى كل دولة للبحث عن خلاصها الخاص بغض النظر عما يحدث فى دول أخرى من مآسٍ مروعة.
لم تكن الحرب مع وباء «كورونا» المستجد الأولى من نوعها فى التاريخ الإنسانى الحديث، الذى تعرض لأوبئة أشد فتكا وأبشع تدميرا، لكنها المرة الأولى التى يتعرض فيها الكوكب كله إلى ضربات متزامنة من وباء واحد بأثر ثورة المواصلات، والمرة الأولى التى تنقل بالبث المباشر وقائع المآسى المفزعة إلى كل بيت.
منذ تسعينيات القرن الماضى بدأنا نرى حروبا وثورات وانتفاضات بالبث المباشر، كأننا فى قلب الحوادث العاصفة، وها نحن نرى لأول مرة فى التاريخ الإنسانى كله حجم ما يخلفه الوباء من مآس وكوارث، كأننا طرف مباشر فى كل مأساة، وكل صرخة ألم على سرير موت، وكل طاقة أمل فى ميلاد جديد للإنسانية.
إلى أى حد تستطيع القيم الإنسانية بعد أن تنقضى الجائحة أن تؤكد نفسها فى السياسات الداخلية والدولية؟
هذا سؤال سياسى وأخلاقى سوف يطرح نفسه بقوة تفوق أى توقع على المعادلات والحسابات الدولية المتغيرة والسياسات والأولويات، كما الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية والفلسفات وكل شىء يتحرك إلى المستقبل.
إذا كان هناك من عنوان للمستقبل الذى يوشك أن يطل علينا من بين خرائب الوباء فهو «وحدة المصير الإنسانى».. إلى أى حد سوف يعكس نفسه فى الحسابات المتغيرة؟.. وما حجم الحروب الفكرية والسياسية التى سوف تدار باسمه؟
لم يولد نداء «وحدة المصير الإنسانى» من فراغ تاريخى بمناسبة تفشى الوباء المروع، فقد تبلور على صيغته الحديثة أثناء الحرب العالمية الثانية فى مواجهة صعود النازية، وما أبدته من وحشية واستعلاء باسم التفوق العرقى.
هزمت النازية أخلاقيا قبل أن تهزم عسكريا، هذه حقيقة لا يجب نسيانها، فالقيم الإنسانية ليست كلاما معلقا فى فضاء الأمنيات الطيبة لا تجد أرضا صلبة تقف عليها.
كانت الحرب الأهلية الإسبانية، التى استبقت وقائع الحرب العالمية الثانية، إشارة عميقة لما يطلق عليه «وحدة المصير الإنسانى»، حين تطوع فى صفوف الاشتراكيين شبان من أنحاء القارة الأوروبية دفاعا عن المعانى الكبرى للحياة والعدل والحرية فى مواجهة قوات الجنرال «فرانشيسكو فرانكو» بنزعتها الفاشية.
عن هذه التجربة كتب الأديب الشهير «أندريه مالرو» صديق الجنرال «شارل ديجول» قائد المقاومة الفرنسية، أثناء الحرب العالمية الثانية ووزير ثقافته رواية «الأمل».
ربما تنظر الآن إسبانيا الجريحة فى مرآة تاريخها تستلهم منه أملا جديدا فى الحياة بالخروج من الكابوس المخيم عليها مع القارة الأوروبية كلها.
بعد سنوات قليلة من انقضاء الحرب العالمية الثانية طرحت فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى بأنحاء مختلفة من العالم الثالث نداءات وحدة حركات التحرير الوطنى و«وحدة المصير الإنسانى».
بدت الفكرة هذه المرة تعبيرا عن حاجات ملحة للتضامن والتآزر بين حركات التحرير فى مواجهة القوى الإمبراطورية الاستعمارية التى لا تريد أن تعترف بحق الشعوب المستضعفة فى التحرر والاستقلال وتمارس أقصى درجات الإذلال والقهر للحيلولة دون أن تمسك بمقاديرها وأن تستعيد ثرواتها الطبيعية المنهوبة.
الانعتاق من الإرث الاستعمارى الطويل قد يكون العنوان الصحيح لحركات التحرر الوطنى فى طلب «وحدة المصير الإنسانى»، فكل انتصار لحركة تحرير يلهم الحركات الأخرى فى انتصار مماثل.
هكذا ألهمت حرب السويس (1956) العالم الثالث بأسره، أن دولة صغيرة مستقلة حديثا نجحت فى التصدى لأكبر إمبراطوريتين فى ذلك الوقت البريطانية والفرنسية ومعهما إسرائيل، التى زرعت فى قلب المنطقة لمنع توحدها وتحررها.
إلهام وحدة ثورات التحرر الوطنى استدعت حركة «عدم الانحياز»، التى دعا إليها ثلاثة رجال: «جمال عبدالناصر ــ مصر» و«جواهر لال نهرو ــ الهند» و«جوزيب تيتو ــ يوغوسلافيا».
كان ذلك تعبيرا عميقا عن وحدة المصير الإنسانى وحق الشعوب فى أن تجترح طريقا جديدا لتأكيد استقلال قرارها الوطنى، بعيدا عن الاستقطاب الدولى بين قطبى ما بعد الحرب العالمية الثانية ــ الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتى السابق.
الآن تطرح قضية «وحدة المصير الإنسانى» من جديد بزخم أكبر ونطاق أوسع تحت الشعور بالفزع من تغول الوباء على جميع مظاهر الحياة والحضارة.
مقاومة الموت بالغناء والتصفيق للأطقم الطبية بتوقيت واحد من شرفات البيوت والتأكيد على «وحدة المصير الإنسانى» تجليات للأمل فى لحظة تحد وجودية.
فى الوقت نفسه تبدت فى المشهد المأساوى إشارات مضادة، كما فى «حرب الكمامات» بين دول يفترض أنها حليفة، حيث اقتنصت الولايات المتحدة ملايين الكمامات الصينية كانت معدة لإرسالها إلى فرنسا بدفع ثلاثة أضعاف سعرها، فرنسا نفسها اقتنصت صفقة أخرى مرسلة لإيطاليا وإسبانيا العضوتين فى الاتحاد الأوروبى والأوضاع داخلهما كوابيس مقيمة.
هكذا تبدى فى مشهد واحد أفضل ما فى الإنسانية وأسوأ ما فيها.
فى انكماش الاقتصاد وزيادة معدلات الفقر والبطالة اختبار قاس آخر للإنسانية المأزومة فى وجودها، ما العمل وأين الأولويات؟.. من يتحمل المسئولية السياسية عن عدم جاهزية البنى الصحية التى تصدعت تحت ضربات الوباء؟.. ومدى مسئولية الرأسمالية المتوحشة والنيوليبرالية عن إلحاق أفدح هزيمة تلقتها البشرية فى العصور الحديثة كلها؟
يا لها من حرب أخرى.