بقلم: عبد الله السناوي
كأنه زلزال مدوٍ هزــ على غير توقع وانتظارــ أركان البيت الأبيض الأمريكى، وفرص الرئيس الحالى «دونالد ترامب» فى تجديد ولايته الرئاسية بالخريف المقبل.
يكاد يرتهن مصيره السياسى بتطورات تفشى جائحة «كورونا» وإدارته أزمتها المستفحلة.
بعد إفلاته من محاكمة عزله أمام مجلس الشيوخ بدعم من الأغلبية الجمهورية؛ بدا طريقه مفتوحا لحصد الانتخابات الرئاسية دون تهديد جدى، كأنه فى سباق نتائجه شبه محسومة.
لم تقلقه شخصية منافسه الديمقراطى «جو بايدن» ولاحقه بتهكماته، فهو «نائم على نفسه»، لا هو يتمتع بكاريزما «باراك أوباما» وقدراته الخطابية، ولا سجله يزكيه أمام قطاعات واسعة من الرأى العام الأمريكى، رغم أنه كان نائبه لدورتين رئاسيتين.
تحت ضربات الوباء القاسية تغيرت البيئة العامة والحسابات الانتخابية.
فى استطلاعات رأى عام تقدم «بايدن» بست نقاط، لم تكن تلك مفاجأة كاملة بقدر ما كانت انعكاسا لما بدا عليه «ترامب»، من ارتباك وتخبط وقلة كفاءة فى إدارة الأزمة المتفشية.
من يوم لآخر ترتفع معدلات الإصابة والوفاة فى «بورصة كورونا»، وتنخفض أسهم الرئيس الانتخابية.
تجرى مقاربات بالأرقام مع حوادث وفواجع فى التاريخ الأمريكى، كأحداث الحادى عشر من سبتمبر والحرب الأهلية وحربى كوريا وفيتنام، وبعد وقت منظور فإنها سوف تتعدى أحجام القتلى العسكريين فى الحرب العالمية الثانية.
فى أجواء الذعر يطرح السؤال نفسه بإلحاح على السجال العام: إلى أى حد يتحمل «ترامب» مسئولية تفشى الوباء وعجز دولة عظمى بحجم أمريكا عن السيطرة عليه بأقل خسائر ممكنة؟
تواترت الاتهامات، كأنها سهام سياسية مصوبة إلى أهدافها، تنسب إليه عدم التأهب لمواجهة الفيروس القاتل والتأخر فى اتخاذ الإجراءات اللازمة وإشاعة الخداع والتضليل.
لم يكن «ترامب» مستعدا لتحمل أى قسط من المسئولية، ولا أبدى أى قدر من الانضباط فى تصريحاته، واستغرق فى نظرية لوم الآخرين، كأنهم مسئولون وحدهم عن تفشى الجائحة فى بلاده.
فى آخر تجليات لوم الآخرين دخل فى صدام مفتوح بلا منطق متماسك مع منظمة الصحة العالمية، قال إنها موالية للحزب الشيوعى الصينى وتتبنى روايته المضللة عن أرقام المصابين والموتى فى «وو هان».
لوح بتعليق التمويل الأمريكى، الذى تعتمد عليه بشكل كبير، ثم تراجع بعد وقت قصير: «أنا لا أقول إننى سأفعل ذلك، بل سأدرس هذه الإمكانية».
تعليق تمويل منظمة الصحة العالمية فى لحظة تفشى وباء قاتل يتهدد البشرية كلها أقرب إلى إطلاق رصاص على الرأس، رأس العالم ورأس الولايات المتحدة نفسها.
فى تلك المشاحنة المزدوجة مع الصين ومنظمة الصحة العالمية استدعاء بغير منطق لمصطلحات الحرب الباردة، التى انقضت منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضى، إذ يصعب نسبة الصين المعاصرة إلى الماركسية اللينينية وأفكار مؤسسها «ماو تسى تونج» إلا بقدر ضرورات الحفاظ على مؤسسات دولتها.
فى نفس المشاحنة استدعاء آخر لما جرى بحق منظمتين دوليتين سابقتين، أولاهما: «اليونسكو» التى انسحبت الولايات المتحدة منها، وأفقدتها جانبا مهما من مواردها المالية بذريعة انحيازها ضد إسرائيل.. وثانيتهما: «الأونروا»، التى أنشئت بعد النكبة لغوث اللاجئين الفلسطينيين لتضييق الخناق على السلطة الفلسطينية حتى تقبل ما يملى عليها فى «صفقة القرن».
الانسحاب المتتالى من المنظمات الدولية هو انسحاب عشوائى من الزعامة الدولية.
القوى العظمى تكتسب مكانتها بأدوارها وقدراتها المالية وقوتها الناعمة قبل عضلاتها العسكرية، وهو ما لا يدركه «ترامب».
فى أوضاع ذعر إنسانى لم يكن أحد مستعدا لتقبل تسييس منظمة الصحة العالمية.. وكانت خسارة «ترامب» مجانية.
اللافت فى أداء ساكن البيت الأبيض حجم التناقض بين تصريح وآخر ومن ساعة لأخرى، كأنه بندول ساعة قديمة معلقة على حائط يوشك على التصدع.
فى لحظة يصف الوباء بـ«الصينى»، أو ينسبه إلى مركز تفشيه فى «ووهان».. وفى لحظة أخرى يستبعد التوصيفات السياسية، واصفا علاقته مع الرئيس الصينى بأنها «رائعة» وأنهما عازمان على التصدى المشترك للوباء.
خلال شهر فبراير الماضى كله استخف بخطر الفيروس، كأنه «إنفلونزا اعتيادية»، وتجاهل تقارير استخبارات بلاده التى حذرته مبكرا من احتمال أن يمثل تهديدا حقيقيا للقوات الأمريكية فى آسيا، وأن ينتقل إلى الولايات المتحدة نفسها، قبل أن يضطر فى مارس لإعلان حالة الطوارئ.
أعلن انتصاره المبكر وعودة الاقتصاد إلى طبيعته قبل عيد «الفصح»، ثم اضطر تاليا ــ تحت الأرقام المفجعة للضحايا ــ إلى التراجع قائلا: «إن إعلان الانتصار المبكر خطيئة»، دون أن يذكر أنه ارتكبها أمام الكاميرات.
لم يأبه كثيرا لما تعرضت له حاملة الطائرات «روزفلت»، أقيل قائدها الذى سرب الخبر للإعلام مصرحا بـ«لسنا فى حالة حرب، وجنود البحرية ليسوا مضطرين للموت»، لكنه يجد نفسه الآن أمام تهديدات جدية لسفن حربية أخرى، حسب ما أعلن رسميا.
كان ذلك تعبيرا عن عجز القوة العسكرية فى مواجهة الوباء القاتل، وأن هناك ما يستدعى الالتفات إليه لاحتفاظ الولايات المتحدة بزعامتها الدولية، أو تأجيل إزاحتها لأطول فترة ممكنة، ليس من بينها العقوبات المالية للمنظمات الدولية، ولا قنص شحنات الكمامات المرسلة لدول أوروبية حليفة يعصف بها الوباء، ولا منع تصدير أى معدات طبية خارجها.
الصورة المهزوزة تعصف بالمكانة الدولية وتمتد آثارها إلى حلف «الناتو» والمكانة الأمريكية فى العالم بين الحلفاء والخصوم على قدر المساواة.
الأسوأ قدر التنافس بين الولايات الأمريكية نفسها على الاحتياجات الطبية، دون تنسيق حقيقى، كأن المركز القيادى فقد سيطرته على الموقف.
تبدت أوجه قصور فادحة بالنظام الصحى لأكثر دول العالم ثراء وتقدما علميا، وحملت المسئولية لـ«ترامب»، غير أنه لم يبد استعدادا لتحمل أى قدر من المسئولية.
يكاد ينسب التقصير إلى أى أحد، باستثنائه هو، الصين، ومنظمة الصحة العالمية، الميديا المنحازة ضده، وخصومه الديمقراطيين، والرؤساء السابقين الذين لم يتخذوا ما هو لازم من إجراءات تضمن المواجهة الكفؤة لمثل هذه الاحتمالات الكارثية.
من المثير أن حملة منافسه الديمقراطى «جو بايدن» تشتكى من أنه لا تتاح له نفس فرص الرئيس الحالى فى مخاطبة الرأى العام الأمريكى عن تطورات الموقف، فيما هو لا يحتاج أن يتحدث كثيرا، ربما يخسر فى هذه الحالة، يكفيه أن يترك المسرح كله لـ«ترامب»، فهو كفيل بنفسه.