بقلم: عبد الله السناوي
تندفع الحوادث بالنذر إلى حافة صدامات محتملة على محورين استراتيجيين متباعدين فى أزمتى «سد النهضة» الإثيوبى دفاعا عن الحق فى المياه شريان الحياة فى مصر، أو خشية الإضرار الفادح بالأمن القومى إذا ما تمركزت جماعات عنف وإرهاب عند الحدود الغربية مع ليبيا.
بتوقيت واحد وصلت الأزمتان المتفاقمتان إلى تخوم الصدامات المحتملة.
العمل المسلح ليس خيارا مفضلا بأى حساب، لكنه قد يكون خيارا أخيرا، إذا ما سدت الأبواب والنوافذ أمام أى حلول سياسية وبدا البلد مهددا فى صميم وجوده وأمنه ومستقبله.
فى أزمة «سد النهضة» تعترض العمل المسلح تعقيدات لا نهاية لها تضر بصورة البلد ومصالحه فى القارة الإفريقية، وتخضعه لضغوطات دولية هو فى غنى عنها، وتخصم بفداحة من أية احتمالات بالمستقبل لبناء علاقات طبيعية ومستدامة على أساس التعاون المشترك بين دول حوض النيل.
هذا كله صحيح، لكنه يستحيل تقبل الموت عطشا بالرضا، أو بالصمت، أو بقلة الحيلة، إذا ما تهدد البلد فى وجوده بشح مائى يفضى إلى «تبوير» ملايين الأفدنة والعجز عن توفير الاحتياجات الغذائية لمواطنيه.
حسب بعض التقديرات فإن الفجوة الغذائية قد تصل إلى (40) مليار دولار سنويا.
لم تكن هناك مشكلة فى التوصل إلى اتفاق ملزم وعادل ومنصف وفق القوانين الدولية يكفل لإثيوبيا حقها المشروع فى التنمية والكهرباء ويضمن لدولتى المصب مصر والسودان حقهما فى المياه والحياة، غير أن إثيوبيا ماطلت فى التوصل إلى مثل هذا الاتفاق على مدى سنوات طويلة من التفاوض وإعادة التفاوض على ما جرى التفاوض عليه، كأنه استهلاك وقت متعمد حتى يستكمل السد ويملء خزانه وتوضع مصر والسودان أمام الأمر الواقع.
هكذا أخفقت أخيرا الوساطة الإفريقية فى حلحلة المفاوضات المارثونية.
كان ذلك متوقعا بالنظر إلى أسلوب التفاوض الإثيوبى، الذى يكاد يتماهى مع أسلوب التفاوض الإسرائيلى فى العودة إلى المربع الأول مرة بعد أخرى كلما بدا أن هناك تقدما ما.
لم يكن ذلك تعنتا، أو غيابا لـ«الإرادة السياسية»، على ما دأبت الخارجية المصرية على وصف الأداء التفاوضى الإثيوبى، بقدر ما كان تعبيرا عن إرادة سياسية واضحة ومستقرة فى السيطرة على نهر النيل الأزرق، كأنه نهر إثيوبى لا دولى، والتحكم فى حصصه وموارده، منحا ومنعا، دون اتفاقيات موقعة وملزمة.
هناك فرصة أخيرة لوقف الاندفاع الحتمى، لا الاختيارى، إلى العمل العسكرى أيا كانت عواقبه، فـ«ليست بعد الروح روح» كما يقول المصريون، إذا ما أمكن للقمة الإفريقية المصغرة المنتظرة أن تصل إلى شىء ما ممسوك يمنع ملء خزان السد قبل التوصل إلى اتفاق ملزم.
فى القمة المصغرة الأولى بدا الهدف منها تطويق ما قد يترتب على اجتماع مجلس الأمن الدولى من نتائج بعدما نجحت الدبلوماسية المصرية فى تعريف الأزمة كتهديد للأمن والسلم الدوليين.
قيل إن البيت الإفريقى هو الفضاء المناسب لحل الأزمة، وراهنت إثيوبيا على أن جنوب إفريقيا الرئيس الحالى للاتحاد الإفريقى متفهمة لها وقريبة من موقفها.
لا يوجد ما يؤشر أن الفرصة الأخيرة سوف تفضى إلى اتفاق، لكنه يتعين الانتظار حتى يستبين العالم كله عدالة القضية المصرية.
لابد أن نعترف أننا لم نعرض قضيتنا العادلة على الرأى العام العالمى بما تستحقه من دأب واهتمام وشرح وإيضاح لحجم الأضرار التى قد تلحق بنا، فيما نجحت إثيوبيا أن تضفى على نفسها صفة المظلومية، فشعبها فقير وتفتقد أغلبيته إنارة منازلها بالكهرباء، كأن مصر تتحمل مسئولية ما تعانيه من فقر مدقع وصراعات عرقية متفاقمة.
بتلخيص آخر لطبيعة أزمة «سد النهضة» فإنها صدامات إرادات وشرعيات.
بالنسبة للإثيوبيين فإنه نقطة الإجماع الوحيدة بين مكوناته العرقية وتناقضاته السياسية، واصطناع «عدو» من خارج الحدود من مستوجبات الاستقرار الداخلى الهش.
وبالنسبة للمصريين، فإن الحفاظ على مياه النيل منذ الحضارة الفرعونية مسألة شرعية حكم وضرورات حياة.
إذا ما تناقضت الاعتبارات إلى حد الاستخفاف بالوجود المصرى نفسه، فإنه لا يمكن استبعاد العمل العسكرى.
الاستخفاف بحق الحياة «إعلان حرب» لا يملك أحد هنا فى مصر أن يمانع فى إعلان حرب مضاد.
العمل المسلح سوف يكون إجباريا، بغض النظر عن النوايا والإرادات والحسابات والمحاذير، إلا إذا توافرت ضغوط دولية تردع إثيوبيا فى الساعات القليلة المقبلة.
مما يعقد حسابات اللحظة الحرجة والمعقدة أن تدخلا عسكريا آخر قد يحدث فى ليبيا بأى وقت، بعدما أجاز مجلس النواب الليبى لمصر التدخل عسكريا «إذا رأت أن هناك خطرا وشيكا يطال أمن بلدينا» ــ بنص بيان رسمى صدر الإثنين الماضى.
فى اليوم نفسه صرح وزير الخارجية التركى «مولود تشاووش أوغلو» أنه ليس من مصلحة «حكومة الوفاق» وقف إطلاق النار قبل السيطرة على مدينة سرت الساحلية والقاعدة الجوية فى الجفرة.. «إذا لم يحدث انسحاب فإن هناك عملية عسكرية مؤكدة».
الموقفان المتناقضان يفتحان المجال أمام اشتباكات وشيكة، إذا ما اقتحمت سرت، أو بدا أنها مرشحة للسقوط، فإن التدخل المصرى سوف يكون محتما.
بالنسبة لتركيا فإن موقع سرت الاستراتيجى بالقرب من الهلال النفطى جائزة كبرى.
إذا ما أقرت بالخط الأحمر المصرى عند سرت والجفرة، فإنها هزيمة حقيقية لسياساتها فى ليبيا ممتدة إلى الصراع على غاز شرق المتوسط، وإذا ما تجاوزته بالسلاح فإنها الحرب يقينا.
بالتوقيت فإن هناك ما يؤشر على قرب بدء معركة «سرت» من تحشيد عسكرى، قد يكون من أهدافه الضغط على القوى الدولية للعمل على انسحاب القوات الموالية للمشير «خليفة حفتر» بلا قتال، تلوح تركيا بالقوة وتؤكد بنفس الوقت استعدادها لوقف إطلاق النار، ثم تعود لتضع اشتراطات، كأنها مناورة على الحافة وعينها على النفط قبل أى شىء آخر.
كانت الشروط التى وضعتها قوات «حفتر» لإعادة ضخ البترول، ومن بينها عدالة توزيع عوائده وإخضاعه لرقابة دولية محايدة، داعيا إضافيا للتوتر التركى والقوات الموالية لها المحتشدة حول سرت.
وبالتوقيت فإن اتساع نطاق الأزمات المعلنة والمكتومة بين روسيا وتركيا من جهة، والاتحاد الأوروبى وتركيا من جهة أخرى، يدفع للاعتقاد بأن الأزمة الليبية تكاد أن تكون ساحة مختارة لاختبارات القوة والنفوذ والمصالح والأوزان.
باستثناء الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» يكاد «أردوغان» أن يقف وحيدا.
تكاد أزمة «آيا صوفيا» تلخص الحسابات السياسية التركية الحالية، فالأزمة بجوهرها سياسية لا دينية.
من دواعى إثارتها الآن إعادة ترميم شعبيته فى الداخل واكتساب نقاط إضافية داخل تيار الإسلام السياسى باعتباره الرجل المؤتمن على الدين وخليفة المسلمين الجديد، الذى أعاد متحف «آيا صوفيا» إلى صورته التى كان عليها قبل ستة قرون عند فتح إسطنبول وتحويله من كنيسة إلى مسجد.
فى معركة الصورة حاول خلع عباءة «مصطفى كمال أتاتورك»، مؤسس تركيا العلمانية الحديثة، أو قتله فى الذاكرة، وارتداء عباءة السلطان «محمد الفاتح» فى رسالة إلى دوره المستجد، أو وما يتطلع إليه مستخدما لغة السلاح على أكثر من جبهة.
فى أجواء محملة بالنذر لا يمكن استبعاد سيناريو الصدام فى الأزمتين مع إثيوبيا وتركيا.
هذه مهمة ثقيلة تستدعى ضبط الأعصاب والتصرفات بقدر ما هو ممكن حتى تكتسب شرعيتها وعدالتها.