بقلم: عبد الله السناوي
بعض أيام التاريخ تكتسب إلهامها من رمزيتها بقدر وقائعها وما خلفته من أثر فى حركة مجتمعها وتفاعلاته بالآمال المحلقة، كما الانكسارات المحبطة.
يوم (9) سبتمبر على روزنامة التاريخ المصرى الحديث أحد تلك الأيام، وقد تجلى إلهامه على نحوين مختلفين بينهما (71) عاما يتصلان عند الجذور وأعماقها الدفينة.
تجلى ــ أولا ــ فى مظاهرة عابدين عام (1881)، بكل مشاهدها الجليلة؛ حيث واجه الزعيم الوطنى «أحمد عرابى» من فوق صهوة جواده وسط حشد من الضباط والجنود المصريين الخديو «توفيق» بمطالب الجيش والشعب، وكلها تدور تقريبا حول رفض التمييز والإجحاف ضد أولاد الفلاحين، وطلب المساواة بين الموظفين وتعيين ناظر للجهادية من أبناء مصر، حسب القوانين العسكرية، التى لم تكن تحترم ورفع عدد القوات إلى (18) ألفا.
هكذا أطلق على «مظاهرة عابدين» وما تلاها من مواجهات سياسية وعسكرية حتى احتلت مصر عام (1882) من القوات البريطانية ثورة الفلاحين وعلى «أحمد عرابى» زعيم الفلاحين.
وتجلى ــ ثانيا ــ بعد أقل من خمسين يوما من حركة «الضباط الأحرار»؛ حيث صدر قانون الإصلاح الزراعى الأول.
كان ذلك تحولا اجتماعيا راديكاليا أكسب الحركة صفة الثورة.
كانت المسألة الزراعية ضاغطة على تفكير الأجيال الجديدة، التى نشأت وتطورت فكريا وسياسيا فى عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، واستولت على مخيلتها قضية الفلاحين.
فى صيف (١٩٥١) جرت مواجهات وصدامات فى الريف أخطرها ما حدث فى قريتى «بهوت» بمحافظة الدقهلية و«كفور نجم» بمحافظة الشرقية من عصيان غاضب لفلاحين مضطهدين، أعقبه تنكيل مفرط من كبار ملاك الأراضى.
وضع فلاحون على خوازيق، واضطر آخرون ــ تحت قهر القوة ــ إلى ارتداء ملابس نساء.
لخصت رواية «الأرض» لـ«عبدالرحمن الشرقاوى»، التى صدرت عام (١٩٥٤)، مثل تلك الأوضاع التى كان عليها الفلاحون فى سنوات ما قبل الإصلاح الزراعى.
لم تطرأ فكرة تحديد الملكية الزراعية على ثوار «يوليو» من فراغ، فقد سبقتها دعوات أحبطت فى أربعينيات القرن الماضى لرجال مثل «محمد خطاب» و«ميريت غالى» و«إبراهيم شكرى»، وهم ينتمون إلى طبقة كبار ملاك الأراضى.
لم يعهد عن عميد الأدب العربى الدكتور «طه حسين» تبنى مثل هذه الدعوات، لكن مجموعته القصصية «المعذبون فى الأرض» بدت إشارة قوية لحجم الطبقية والتمييز فى المجتمع وغياب أية عدالة.
لم تكن مصادفة اختيار يوم (9) سبتمبر ــ بالذات ــ لإطلاق قانون الإصلاح الزراعى.
كان ذلك رد اعتبار للثورة العرابية ولجوهر قضيتها فى إنصاف الفلاحين وإلغاء التمييز الاجتماعى ضدهم.
عند الجذور التقى معنيان على درجة عالية من الأهمية، الأول ــ اتصال الحركة الوطنية المصرية، فإذا ما انتكست فى مرحلة تعود للصعود من جديد ولو طالت السنين.. والثانى ــ تداخل ما هو وطنى مع ما هو اجتماعى، وأن أى فصل نوع من التعسف لا يستقر على أرض.
«كان الهدف الفورى للإصلاح الزراعى توجيه ضربة قوية لطبقة كبار ملاك الأراضى وعناصر الأرستقراطية الزراعية، التى سيطرت على مراكز السلطة فى العهد الملكى.. وكان الهدف الأبعد تحطيم العوائق الأساسية أمام تطوير علاقات اجتماعية واقتصادية جديدة فى الريف المصرى، وتصفية العلاقات شبه الإقطاعية السائدة، التى تحجب عملية تحرير قوى الإنتاج فى الريف المصرى» ــ حسب الدكتور «محمود عبدالفضيل» فى دراسته الرائدة «عن تطور المسألة الزراعية فى مصر»، التى شاركه فيها فريق بحثى بجامعة «كامبريدج».
بقدر ما استطاعت تقدمت «يوليو» لتغيير المعادلات الظالمة، لكنها لم تستوف رفع كل المظالم، وحاولت أن تجد حلولا لتفتيت ملكية الأراضى بإنشاء الجمعيات الزراعية والتسويق التعاونى.
كان الإصلاح الزراعى بروحه وأهدافه مقدمة أوسع حراك اجتماعى شهدته مصر فى الستينيات، كما كان موضوعا لأول صدام بين الثورة الوليدة وحزب «الوفد».
بتأكيدات قيادات عاصرت الحدث من داخل حزب «الوفد»، فإنه لم يتخذ قرارا برفض مشروع الإصلاح الزراعى.
هذا ما حدث لكنه لا يمثل دعما أو تأييدا.
كان الخلاف جذريا فى زاوية النظر للمسألة الزراعية، فـ«الثورة تعتقد أن تحديد الملكية وتوزيع الأرض على الفلاحين الوسيلة الوحيدة التى تحرر الفلاح الذى نشأ عبدا فى الأرض وملكا لمالك الأرض».. و«كان الوفد يرى أن الضرائب التصاعدية كفيلة بزيادة موارد الخزانة دون حاجة إلى هذا القانون».. «لم تكن مسألة أموال تدخل الخزانة بقدر ما كانت قضية كرامة الفلاح المصرى التى أهينت لقرون» ــ بنص شهادة «جمال عبدالناصر» مطلع ستينيات القرن الماضى أثناء أعمال المؤتمر الوطنى للقوى الشعبية.
«كنا نفكر بعقلية وهم يفكرون بعقلية أخرى».
«كنا نريد للفلاح أن يمتلك حتى يكون حرا ويستطيع أن يقول أيوه ويستطيع أن يقول لا».
اختلاف زوايا النظر بحكم تضاد المصالح الطبقية أسس لقطيعة بين «يوليو» و«الوفد».
لم تكن القطيعة التى جرت محض صراع سياسى على السلطة بقدر ما كانت تعبيرا عن صراع اجتماعى.
فى مايو (١٩٦٦) بدت حادثة اغتيال «صلاح حسين» بقرية «كمشيش» رسالة دامية أن الصراع الطبقى فى الريف المصرى لم يخمد، وأنه مرشح لمواجهات عنيفة أخرى.
كما ثبتت تجاوزات فادحة فى تطبيق قانون الإصلاح الزراعى.
كان اغتيال «صلاح حسين»، تعبيرا عن ضراوة الصراع بين حركة فلاحية ناشئة، وإقطاع يطل من جديد بالرصاص.
أنشئت لجنة خاصة لـ«تصفية بقايا الإقطاع»، شابت أعمالها تجاوزات وانتهاكات أساءت إلى الثورة فيما قضيتها عادلة.
فى ذلك الوقت ظهرت على مسرح الصراع الاجتماعى «شاهندة مقلد» أرملة «صلاح حسين» كرمز للفلاحة الجديدة.
فى السبعينيات غنى باسمها «الشيخ إمام» من شعر «أحمد فؤاد نجم» «يا شاهندة وخبرينى» على نسق «يا بهية وخبرينى»، لطلب الحقيقة ممن يؤتمن ويوثق فى روايته.
ترمز «بهية» «أم طرحة وجلابية» إلى مصر.
لم يكن السؤال لـ«شاهندة» عمن قتل «صلاح حسين»، فالقصة ليست غامضة كحال «بهية» و«ياسين» فى الرواية الشعبية.
بين ما هو سياسى واجتماعى وبين ما هو تاريخى وشعبى تحركت الحوادث فى الريف المصرى من القنوط بالذل قبل «يوليو» إلى الأمل بالإصلاح الزراعى فى إكساب الفلاحين كامل حقوقهم الإنسانية فى الحياة، حتى جرى الانقلاب الاجتماعى المضاد فى السبعينيات تلاه انقلاب آخر على توجهات «يوليو» التحررية باتفاقيتى «كامب ديفيد».