بقلم: عبد الله السناوي
«ماذا يحدث بحارتنا؟»
«إنها الشوطة، تجىء لا يدرى أحد من أين، تحصد الأرواح إلا من كتب الله له السلامة».
«لا يفرق هذا الموت الكاسح بين غنى وفقير، قوى وضعيف، امرأة ورجل، عجوز وطفل، إنه يطارد الخلق بهرواة الفناء»
هكذا صور «نجيب محفوظ» فى روايته «الحرافيش» الأجواء المقبضة، التى سيطرت على «حارتنا»، «بلدنا» فيما يقصد، كأنه يتحدث عن العالم فيما نراه الآن تحت وطأة فيروس كورونا المستجد.
لم تكن نوازع الخوف عند البشر أمام المجهول الغامض موضوع الرواية بقدر استكشاف فلسفة الحياة فى مواجهة الموت، أصول الحكم وضرورات العدل، فإذا لم تقترن القوة بالعدل فإنها تخرق «أصول الفتونة» كما أرساها فى الرواية «عاشور الناجى»، الذى أفلت من براثن الموت فى الحارة المنكوبة ليفتتح زمنا جديدا تعددت رواياتها جيلا بعد آخر.
بصورة مقاربة فإن العالم بأسره أمام زمن جديد يوشك أن يولد من بين براثن الخوف والفزع الذى ينتاب جنباته تحت وطأة «كورونا».
نحن أمام مشروع تجسيد لا سابق له لمقولة «وحدة المصير الإنسانى»، إنه عالم واحد ومصير مشترك.
بعد أن تنقضى التجربة المفزعة لن يبقى العالم كما كان قبلها، لا فى نظرته إلى نفسه ولا فى طبيعة علاقاته الدولية وأولويات قضاياه، كأنه خروج عن النص القديم.
فى المشهد المفزع يتبدى نوع مستجد من العولمة، عولمة الأوبئة، كأنها «شوطة» بتعبير المصريين فى الأزمان القديمة تضرب الكرة الأرضية، لا حارة أو رقعة جغرافية لا تتعداها.
عولمة الأوبئة استدعت قدرا من الانغلاق فى مواجهتها كإغلاق الحدود وتخفيض حركات الطيران والتنقل، كانت تلك مفارقة غير مسبوقة.
لم يشر «نجيب محفوظ» إلى زمن بعينه لأحداث روايته، غير أنه على الأغلب استوحى الأجواء المقبضة فيها مما تعرضت له قرية «القرين» المصرية عام (1947) شرق البلاد من تفش لوباء «الكوليرا».
فى هذا العام نشر الروائى الفرنسى «البير كامو» رواية «الطاعون»، التى ذاع صيتها فى العالم، عن بشر محاصرين ومعزولين فى مدينة «وهران» الجزائرية، لا يستطيعون مغادرة المدينة ولا أحد بوارد أن يأتى إليهم.
كان ذلك مدخلا لموضوعه: فلسفة الحياة والوجود أمام الموت الداهم.
فى عمل أدبى ثالث «الحب فى زمن الكوليرا» للأديب الكولومبى «جبراييل جارثيا ماركيز» بدت المفارقة بين عنوان الرواية وموضوعها، هناك حب ولم تكن هناك كوليرا، رفع العلم الأصفر فوق سفينة تحمل حبيبين قديمين فرقت بينهما أقدارهما وقد تجاوزا السبعين من عمريهما، حتى يهرب منها بقية الركاب ويبقيا معا «إلى الأبد».
«ماركيز» وظف دراميا الوباء على نحو يختلف عن «محفوظ» و«كامو»، أراد أن يقول إن الحاجة إلى الحب تشتد كلما اقتربنا من الموت.
بعدما يستوعب العالم تجربته الحالية، يلملم آلامه ومخاوفه فى الذاكرة، فإن تجربة «كورونا» المستجد سوف تمثل باليقين مادة إنسانية وتراجيدية لاستلهام رؤى وأفكار جديدة تأخذ طريقها إلى الأدب والفن لاستكشاف عالم منقسم بالمصالح وموحد بالأوبئة، ليس هو عالم «الطاعون» عند «كامو» ولا «الكوليرا» عند «ماركيز» ولا «الشوطة» عند «محفوظ».
إنه عالم «الكورونا» وعولمة الأوبئة، حيث أصبحت «حارتنا» هى العالم بأسره.
ما يحدث الآن أقرب إلى مرآة سياسية واجتماعية وثقافية لعالم جديد يوشك أن يولد، نوع من الخروج عن النص.
يكاد العالم يفقد حيويته، منارات الحضارة مطفئة بمسارحها ومتاحفها ومزاراتها وتجمعاتها الرياضية، رياض الأطفال والمدارس والجامعات ودور العبادة مغلقة، أو توشك أن تغلق خشية انتقال المرض.
تفشى الوباء بصورة متسارعة أربك الحسابات السياسية ومراكز صنع القرار فى العالم، أربك التحالفات والأولويات، أفضى إلى أضرار اقتصادية فادحة يصعب حصرها قبل أن تنقضى الجائحة.
هذه أجواء غير مسبوقة فى التاريخ الإنسانى الحديث ولا فى شموليته للكرة الأرضية بنفس اللحظة.
فى مثل تلك الأجواء تنشط «نظريات المؤامرة» دون دليل عليها، ونظريات الحروب البيولوجية، فإذا كان تعطيل النمو الاقتصادى الصينى هدفها الأساسى فإن التعطيل شمل العالم كله وأصبحت أوروبا البؤرة الأساسية لتفشى الوباءــ حسب منظمة الصحة العالمية، أو «الصين الجديدة» كما يقال.
الخشية ــ هنا ــ أن العالم الثالث قد يكون هو «الصين القديمة» موطن الأفيون والذباب والأوبئة فى العصور القديمة حيث تعجز دوله عن توفير الاحتياجات الطبية الضرورية وتعوز شعوبه درجات الوعى اللازمة للوقاية.
التفكير العلمى لا الغيبى من ضرورات المواجهة بالإجراءات الاحترازية والبحوث العلمية التى تسابق الوقت للتوصل إلى عقاقير ناجعة للقضاء على الوباء المستجد.
لا وقت للاستخفاف أو الخفة، الرئيس الأمريكى نفسه «دونالد ترامب» بعدما استخف بالوباء اضطر أمام تزايد أعداد الضحايا فى بلاده أن يعلن حالة طوارئ وطنية.
قد تكتسب قضية سلامة البيئة زخما غير مسبوقا بعدما أصبحت قضية مصير ووجود، لم يعد ممكنا الاستهتار بها على ما فعل رئيس البرازيل الحالى الذى تعرض للإصابة بالفيروس.
منذ بدء الخليقة لم يكن الإنسان قويا كما هو الآن ولا ضعيفا كما هو الآن.
قدرة الدول على مواجهة الفيروس المستجد بشفافية وكفاءة يدخلها فى حساب جديد كاختبار عملى لمستوى تقدمها الطبى والتكنولوجى وقدرتها على تعبئة طاقاتها فى أوضاع صعبة ومدى صلابة أوضاعها الداخلية.
نحن أمام حرب عالمية من نوع جديد، لم تكن مصادفة أن تعلن دولا كبرى إجراءات يصعب اتخاذها فى أوقات الحروب المسلحة، فالعدو هذه المرة لا يرى لكنه يميت.
أمام الأخطار المحدقة تتأكد الحاجة الماسة إلى إعلاء قيم الشفافية والتفكير العلمى وإعلان الحقائق وردم فجوات الثقة وخفض الاحتقانات الداخلية طلبا للتماسك الوطنى واتخاذ ما هو ضرورى من إجراءات احترازية بلا تردد ولعثمة لحماية حياة المواطنين.
«ماذا يحدث فى حارتنا؟»
نحتاج إلى إجابة جدية فى وقت «شوطة» على سؤال «نجيب محفوظ» فى رواية «الحرافيش».