بقلم: عبد الله السناوي
بعد مائة عام من تأسيسه باسم «لبنان الكبير» داهمته أسئلة وجوده، أن يكون أو لا يكون.
أزماته المتراكمة والمستجدة انفجرت مرة واحدة كأنها اختبار وجودى لقدرته على إعادة تعريف نفسه، هويته ودوره وطبيعة نظام حكمه وعلاقته بإقليمه وعالمه.
عند مفترق المئوية تبدت حقائق أساسية تدخل بالضرورة فى أية إجابة عن المصير اللبنانى المحتمل فى عالم متغير وإقليم مضطرب.
الحقيقة الأولى، أن الدولة التى أعلنها المندوب السامى الفرنسى الجنرال «هنرى غورو» مطلع سبتمبر (1920)، بعد أن توقفت مدافع الحرب العالمية الأولى، استنزفت الطبيعة الطائفية التى أسست عليها.
بتعبير وزير الخارجية الفرنسى الحالى «جون إيف لودريان» فإنها «دولة مهددة بالزوال».
بين الجنرال المنتشى فى قصر «الصنوبر»، من مقر سلطته كقوة احتلال، والدبلوماسى المخضرم فى صورة المنقذ القلق على مصير البلد، جرت قصة طويلة استغرقت قرنا كاملا من الصفقات والمناورات الإقليمية والدولية والحروب بالوكالة والاحترابات الأهلية والاحتلالات الإسرائيلية والمواجهات المسلحة بالمقاومة.
أصل المشكلة اللبنانية فى الطريقة التى أسست بها قبل مائة عام.
عند منتصف القرن التاسع عشر جرى التفكير فى «إمارة كاثوليكية» على خلفية الاحترابات الطائفية الدامية فى جبل لبنان بين الموارنة والدروز، غير أنها استبعدت فى اتفاقية «سايكس ــ بيكو» (1916) لتقاسم النفوذ والسيطرة فى المنطقة بين الإمبراطوريتين السابقتين البريطانية والفرنسية.
جرى توسيع الدولة المقترحة لتضم إلى جبل لبنان أقضية ومتصرفيات أخرى، بعضها بالتراضى وأخرى بالقهر.
وصفت الدولة الجديدة بـ«لبنان الكبير»، وكان الاسم مخادعا، فقد جرى تقسيم سوريا إلى دولتين وضعتا تحت الانتداب الفرنسى.
لم يكن لبنان وحده من جرى اصطناعه فى عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى، فقد اصطنعت بالتدخل الجراحى دول أخرى وجرى تمزيق المشرق العربى.
وكان الثمن مروعا.
الحقيقة الثانية، أن إعلان الجمهورية اللبنانية عام (1926)، بعد ست سنوات من تأسيس الدولة، جرى بإرادة سلطة الانتداب وفق حسابات مصالحها بأكثر من أن يكون تعبيرا عن إرادة داخلية فى تعريف طبيعة نظام الحكم.
ولم يكن إعلان الاستقلال بعد (23) سنة من فرض الانتداب الفرنسى تعبيرا عن الفكرة الاستقلالية بمعناها الحقيقى.
بصورة أو أخرى انتقل لبنان من الانتداب الصريح إلى الانتداب المقنع.
باختلاف العصور ارتهن مصيره لمراكز النفوذ والقوة الإقليمية والدولية المتداخلة فى شئونه حتى وصلنا إلى ما يشبه العجز الكلى عن معالجة أزماته فى إطاره الداخلى ونوع آخر من الوصاية الدولية، كما تتجلى فى الأدوار التى يلعبها الرئيس الفرنسى «إيمانويل ماكرون» الآن.
الحقيقة الثالثة، أن المحاصصة الطائفية استقرت على مدى قرن كامل فى بنية الدولة والمجتمع، صممها وفرضها الفرنسيون منذ إعلان «لبنان الكبير».
غابت فكرة المواطنة وتغليب الكفاءة فى تولى المناصب، فكل شىء يتحرك فى البلد يجرى بتوافقات «أمراء الطوائف».
هكذا تتبدى المعضلة اللبنانية عند مفترق المئوية، لا النظام الطائفى قادر على البقاء ولا مغادرته سهلة فوق طرق معبدة.
الحقيقة الرابعة، قدر الضجر فى بنية المجتمع اللبنانى من تغول أمراء الطوائف على مقاديره وثرواته.
شىء عميق تحرك أخذ صفة الانتفاضة، أو الحراك، ضد الطبقة السياسية كلها فى أكتوبر (2019)، لا يعرف بالضبط ما يريده، لكنه يعرف ما لا يريده.
كانت تلك معضلة الغضب فى دولة استنزفت طاقتها على البقاء تحت ضغط أزمات عاصفة نالت بالفساد وهدر المال العام من قدرة المواطن العادى على تلبية أبسط احتياجاته المعيشية.
انهارت الليرة اللبنانية ووصل البلد إلى حافة الإفلاس قبل أن يجد نفسه فى (4) أغسطس (2020) منكشفا بالكامل تحت الضربات المروعة لانفجار مرفأ بيروت.
تحت دوى الانفجار وصور أشلاء الضحايا والبنايات المهدمة فى المدينة المنكوبة كاد «لبنان الكبير» أن تزهق روحه.
استدعت الصور ضرورات إعادة تعريف لبنان لنفسه كدولة قانون وحقوق متساوية بين مواطنيه يواصل بها قدرته على إنتاج الحياة إبداعا وخلقا ونشاطا تجاريا عهد عنه.
بإرث أزماته المتوارثة جرت محاولات لتوظيف شرعية الانتفاضة فى تصفية حسابات سياسية مع أطراف بعينها فى المعادلة اللبنانية بأكثر من التطلع لإعادة تأسيس البلد من جديد وفق حقائق العصر.
الحقيقة الخامسة، قدر التدخل الفرنسى، سلطة الانتداب السابقة، فى الشأن الداخلى اللبنانى، كسلطة فوق السلطات، ورئاسة فوق الرئاسات، على ما تبدى فى الطريقة التى يتصرف بها الرئيس الفرنسى فى إدارة الأزمة.
باليقين فإن قطاعا كبيرا من اللبنانيين يعولون على نجاحه فى إيجاد مخرج ما لأزمة وجودية مستحكمة عجزت النخب السياسية عن حلحلتها، أو التوافق بينها على عقد سياسى جديد تحتمه ضرورات البقاء فى المئوية الثانية.
كانت تلك شهادة مستجدة ضد نظام المحاصصة الطائفية.
الحقيقة السادسة، أن قوة لبنان فى قدرته على الإبداع والإلهام قبل أية أدوار وظيفية اضطلع بها فى أوقات مختلفة من تاريخه سمحت بأن يكون مرآة لتفاعلات وموازين قوى العالم العربى، تحولاته وأفكاره واحباطاته.
لم تكن محض مصادفة أن يقرر الرئيس الفرنسى، أو أن ينصح من مستشاريه، بزيارة المطربة اللبنانية السيدة «فيروز»، قبل أى حوار مع الطبقة السياسية بمختلف مكوناتها.
قوة «فيروز» فى تعبيرها الفنى عن وحدة اللبنانيين وإرادة الحياة عندهم.
كانت تلك رسالة رمزية لمواطن القوة فى لبنان، أنهم أقوياء بالفن والإبداع كما بالثقافة والإنتاج الفكرى والصحفى والإعلامى.
لم يكن «ماكرون» أول رئيس فرنسى يمنح «فيروز» وساما رفيعا، فقد سبقه رؤساء آخرون.
قيمة الوسام فى توقيته ورسالته وتسويغ تدخله فى الشأن اللبنانى، كما لم يحدث منذ هزيمة السويس عام (1956).
الحقيقة السابعة، أن التدخل الفرنسى فى الأزمة اللبنانية يستند إلى نوع من التفويض الدولى، كما يعبر عن حركة دبلوماسية نشطة لتعويم شعبية «ماكرون» فى بلاده تحت ضغط أزماتها الاقتصادية من «السترات الصفراء» إلى ضربات جائحة «كورونا».
بصورة أو أخرى فإنه يتحرك فى فراغ الدور الأمريكى، المنشغل بالانتخابات الرئاسية وما يساعد على رفع منسوب فرص «دونالد ترامب» كرجل سلام يمنح الإسرائيليين كل شىء مقابل لا شىء للفلسطينيين ويفرض التطبيع على الدول العربية.
فى نفس مساحة الفراغ بدأ يتحرك فى الملف العراقى باسم دعم سيادته، فيما هو يطلب عمليا محاصرة التغول التركى فى شرق المتوسط.
تحت ضغط الأزمة اللبنانية المستحكمة جرت صفقات كواليس مع قوى إقليمية نافذة لتمرير الحكومة التى يطالب بها والإصلاحات التى يدعو إليها مقابل المساعدات.
رغم أحاديث الإصلاح فإن آليات تشكيل الحكومة الجديدة نحت إلى استنساخ ما كان جاريا من قبل باسم «الديمقراطية التوافقية»، التى تنطوى على تناقض فادح بين التنوع الطبيعى فى الآراء والأفكار والتقاسم الطائفى للسلطة والنفوذ والمناصب.
بأية نظرة موضوعية فإن سقف خطة «ماكرون» بدأ فى الانحسار من بناء نظام جديد لا طائفى إلى حكومة إصلاحية بمهام محددة رغم ما هو متواتر من دعوات لبناء دولة مدنية حديثة وفق عقد سياسى جديد يصوغه اللبنانيون أنفسهم.
هكذا يدخل «لبنان الكبير» مئويته الثانية دون أن يجد ما يدعوه للاحتفال بمئويته الأولى.