بقلم: عبد الله السناوي
يكاد المشهد الأمريكى المستجد ألا يصدق، فهو نسخة مطابقة من انتفاضات واحتجاجات وتظاهرات العالم الثالث حيث تنفجر موجات الغضب بتراكم المظالم وغياب العدالة وقيم المواطنة والكرامة الإنسانية وتبطش القوة وتتوعد مواطنيها باسم الحفاظ على الأمن دون استعداد لتفهم أسباب ودواعى الغضب.
نحن أمام انتفاضة متكاملة الأركان ضد العنصرية والتمييز الاجتماعى وخطاب الكراهية.
يستلفت النظر فيها ــ أولا ــ اتساع نطاق احتجاجات الغضب داخل الولايات المتحدة، كأن عود ثقاب ألقى بالقرب من براميل بارود.
ويستلفت النظر ــ ثانيا ــ مدى التضامن الإنسانى ضد العنصرية المتجذرة، كأنه استفتاء مفتوح باتساع العالم على عدالة القضية بغض النظر عما شاب الاحتجاجات من أعمال عنف وتخريب وصدامات شوارع.
ويستلفت النظر ــ ثالثا ــ قدر التخبط فى إدارة الأزمة والإفراط فى استخدام القوة إلى حد التلويح بـ«إنزال آلاف الجنود الأمريكيين المدججين بالسلاح»، إذا ما تقاعس حكام الولايات عن اتخاذ ما يلزم من إجراءات رادعة فى مواجهة التظاهرات، والتورط فى التحريض على العنف فى مركز صناعة القرار، كأننا أمام دولة بوليسية كلاسيكية.
ويستلفت النظر ــ رابعا ــ ما تلقته إدارة الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» من انتقادات تشبه ما يوجه عادة لقادة دول العالم الثالث، بعضها أعربت عن «صدمتها» من العنف المفرط ضد المتظاهرين، كالذى صدر عن الاتحاد الأوروبى، وبعضها الآخر طلبت التحقيق فيما جرى من وقائع وحوادث بحسب بيان أمين عام الأمم المتحدة، وهذا مؤشر جوهرى على تصدع المكانة الأمريكية فى لحظة تحول ببنية النظام الدولى بأثر ضربات وتداعيات الجائحة.
بقوة الصور تبدو الولايات المتحدة فى وضع انكشاف داخلى غير مسبوق منذ الحرب الأهلية.
وبقوة الصور تتبدى رمزية «جورج فلويد» لقضية تغول العنصرية فى بلاده.
رمزيته لخصتها نظرات عينيه الزائغة والملتاعة، وهو يطلق عبارته الأخيرة قبل أن يودع الحياة مقيدا وعاجزا: «لا أستطيع أن اتنفس»، فيما لم يأبه ضابط الشرطة الذى جثم على عنقه بركبته بمعاناة إنسان يموت بلا عدل ولا رحمة.
هذه العبارة بالذات ألهمت التظاهرات واستدعت الغضب إلى الشوارع.
«جورج فلويد» لا هو بطل ولا له تاريخ سياسى، إنه محض رجل عادى، تاريخه ملتبس، قتل عمدا بسبب لون بشرته أمام كاميرا التقطت تفاصيل الجريمة.
شىء مقارب حدث فى الانتفاضة الثانية قبل نحو عقدين فى سبتمبر (2000) حين اغتيل برصاص الاحتلال الطفل الفلسطينى «محمد الدرة» أمام الكاميرات فيما كان يحاول أن يختبئ خائفا فى حضن أبيه الملتاع.
بقوة الصورة وما انطوت عليه من قهر إنسانى وعنصرية مفرطة لا تقيم وزنا لحياة طفل أعزل اندلعت الانتفاضة الفلسطينية مجددا وعمت التظاهرات مصر وعالمها العربى، كما لم يحدث من قبل.
هكذا تبدت قوة الرموز والصور فى قضية «جورج فلويد» وترددت شعارات «لا عدالة.. لا سلام» و«حياة السود تهمنا».
استدعيت لميادين الغضب ذاكرة الخمسينيات والستينيات، التى ما زالت ماثلة فى الأذهان، رغم ما حصل عليه الأفارقة الأمريكيون من حقوق مدنية وصعود شخصيات من بينهم للمناصب العليا بما فيها رئاسة الدولة على عهد «باراك أوباما».
لم يستوف التغيير حقائقه وقواعده وقوانينه وظلت العنصرية كامنة ومنذرة فى المؤسسات وبنية المجتمع نفسه تنتظر لحظة التفجير.
لم يكن تغول الشرطة على الأمريكيين السود كما فى حالة «فلويد» حدثا مفاجئا، أو غير اعتيادى، لكن الصدور ضاقت وأفلت عيارها بالغضب الجامح.
فى العام الماضى فقط قتل أكثر من ألف مواطن أمريكى برصاص الشرطة، أغلبهم من السود، ولم تتم فى أغلب الحالات أية مساءلات ومحاكمات جادة تردع وتوقف وتحقق العدالة.
استدعى مقتل «جورج فلويد»، بالطريقة الشنيعة التى جرت بها، الأزمة العنصرية من عند الجذور، حين حملت السفن عبر المحيط أفواجا متتالية من الأفارقة الذين جلبوا عبيدا إلى العالم الجديد.
كانت تلك تجربة مريرة للأفارقة السود امتدت أثامها بين القرنين السادس عشر والثامن عشر وانتهكت خلالها أية قيمة أخلاقية وإنسانية، ثم كانوا وقودا أكثر من غيرهم فى الحرب الأهلية الأمريكية بين عامى (1861) و(1865)، وفى كل الحروب الأمريكية التى تلتها.
فى حرب فيتنام ــ مثالا ــ وصلت نسبة قتلاهم (50%) ممن سقطوا فى أتونها فيما كانت نسبتهم إلى مجمل السكان نحو (12%).
بنسب متقاربة تبدت المحنة العنصرية فى الولايات المتحدة بعد تفشى جائحة «كورونا»؛ حيث ضربت الإصابات والوفيات الأمريكيين الأفارقة بمعدلات عالية تفوق بكثير نسبتهم إلى عدد السكان.
كان ذلك تعبيرا عن الفقر والحرمان والتهميش فى مجتمعاتهم وأحيائهم الفقيرة.
لا يمكن الادعاء بأن العنصرية المتأصلة فى بنية وتاريخ الولايات المتحدة اختراعا «ترامبيا»، لكنه يتحمل مسئولية تغذية خطاب الكراهية والتحريض على العنف والتصعيد إلى مستوى التهديد بإطلاق الرصاص على المحتجين دون أدنى استعداد لإدراك أسباب ودواعى الغضب.
أدان مقتل «جورج فلويد» بشىء من المراوغة، فلا إجراءات عدالة اتخذت ولا تبدت استجابة ما لمتطلبات إصلاح الجهاز الأمنى، الذى تتفشى فيه العنصرية ضد المواطنين السود.
أفضى اتهام مرتكب الجريمة بالقتل غير العمدى إلى تشكيك فى مؤسسة العدالة وصب مزيد من الزيت على نيران الغضب المشتعلة، فقد شاهد العالم كله الواقعة المشينة مصورة بأدق تفاصيلها.
ذهب «ترامب» إلى عكس ما تستدعيه واجبات منصبه تصعيدا للمواجهة مع خصومه السياسيين إلى حدود تنذر فى بعض السيناريوهات إلى جر الولايات المتحدة إلى حرب أهلية ثانية.
نسب العنف إلى مجموعات يسارية قاصدا الحزب الديمقراطى أساسا وبعض الجماعات الحقوقية المعادية للفاشية لتعبئة قاعدته الانتخابية البيضاء المتعصبة، دون أدنى استعداد للاعتراف بحقيقة الأزمة المتفاقمة.
رفع الإنجيل أمام الكنيسة المواجهة للبيت الأبيض بلقطة تذكارية مسيسة بعد أن أخلى الأمن الطريق إليها بالقمع المفرط للمتظاهرين، كان ذلك تسييسا للدين إرضاء لمناصريه الإنجلييين بما استدعى احتجاج الكنيسة نفسها على التوظيف السياسى للكتاب المقدس.
استدعى الجيش إلى العاصمة واشنطن، وبدت مشاهده داخل البيت الأبيض على مرأى من المتظاهرين السلميين تعبيرا عن درجة ذعر وصلت إلى حد اختباؤه لبعض الوقت فى مخبأ محصن، كما لو أن البلاد تتعرض لهجوم نووى.
ودخل فى صراعات صاخبة سياسية وقانونية مع «تويتر» على خلفية تحفظات أبدتها على بعض تدويناته، أهمها ما اعتبرته تحريضا على العنف، وكان ذلك تطويرا لأزماته مع الإعلام التقليدى مثل الـ«CNN» والـ«واشنطن بوست» والـ«نيويورك تايمز».
بدا كل شىء مباحا ومشروعا من أجل تجديد ولايته الرئاسية فيما استطلاعات الرأى ترجح أن يحسمها منافسه الديمقراطى «جو بايدن»، الذى دأب على الاستهانة به ووصفه بـ«جو النائم على نفسه».
المثير فى سيناريو الصعود المحتمل لـ«بايدن» أن أحدا لم يكن مستعدا أن يصدق قبل تفشى جائحة «كورونا» وانفجار انتفاضة «جورج فلويد» أنه يمكن أن يكسب الانتخابات فى مواجهة «ترامب»؛ حيث يفتقر إلى أية كاريزما مقارنة بالرئيس الديمقراطى السابق «باراك أوباما»، لكنها أخطاء وخطايا وحماقات «ترامب».
أية مراجعة للخطاب الذى القاه «بايدن» عن تطورات الأزمة الداخلية تكتشف بسهولة بالغة أنها كتبت بعناية بالغة من محترفين يعرفون وقع الكلمات على جمهور قلق، وقد قدم نفسه كموحد للأمة الأمريكية ومدافع عن قيمها حريصا على الدستور والحريات العامة وإقرار العدالة لكل المواطنين الأمريكيين.
الأزمة فى عمقها أكبر من الاستحقاق الانتخابى الرئاسى، لكنه سوف يكون كاشفا لقدرة المجتمع الأمريكى ومؤسساته على شق طريق جديد يضمن وحدة الولايات الأمريكية ومكانتها فى عالمها، وهذه مهمة صعبة للغاية فكل شىء يومئ إلى تدهور هذه المكانة الأمريكية.
القضية ليست أن ينتخب أو لا ينتخب «ترامب» لفترة رئاسية جديدة، فهو لا يتحمل وحده مسئولية ما آلت إليه بلاده من تدهور فى مكانتها التى اكتسبتها بعد الحرب العالمية الثانية وزاد منسوبها بعد نهاية الحرب الباردة وانفرادها شبه المطلق لسنوات طويلة بقيادة النظام الدولى، لكنه يبدو بتصرفاته الشعبوية الهوجاء محفزا على الفوضى والتفكيك فى بنية النظام السياسى الأمريكى.