بقلم: عبد الله السناوي
بعدد السنين فهناك ستة عقود كاملة تفصل أول مناظرة تلفزيونية رئاسية أمريكية عام (1960) عن آخر مناظرة مماثلة (2020).
فى المرتين، بدت أمريكا عند مفترق طرق.
فى الأولى، كان سؤالها الرئيسى: كيف تدير فوائض القوة والنفوذ، التى حصدتها بعد الحرب العالمية الثانية، ودفعت بها إلى موقع القوة العظمى الأولى فى العالم؟
كان الاختيار بين رجلين ومنهجين ونظرتين مختلفتين لدولة توافرت لها موارد عسكرية واقتصادية هائلة مكنتها من قيادة ما أطلق عليه فى ذلك الوقت «المعسكر الغربى»، وساعدتها صور «الأمريكى المنتصر» و«الحلم الأمريكى» وسينما «هوليوود» وأسلوب الحياة الجديد على اختراق ناعم رافق قوتها الخشنة.
الرجل الأول، «ريتشارد نيكسون»، الذى كان نائبا للرئيس الأمريكى الجنرال «دوايت إيزنهاور»، أبرز أبطال الحرب العالمية الثانية بوصفه القائد العام للجيش والقائد الأعلى لقوات الحلفاء فى أوروبا.
والرجل الثانى، «جون كينيدى»، الذى تبنى رؤية مختلفة لعالم ما بعد الحرب أطلق عليها «الآفاق الجديدة» والتفت حوله نخبة من كبار العقول الأمريكية.
عند مفترق الطرق لعب العصر التلفزيونى دورا حاسما فى ترجيح «كينيدى».
بقوة الصورة فهو شاب وسيم فى الثانية والأربعين من عمره إجاباته حاضرة وابتسامته ساحرة، فيما لم تتوفر لمنافسه «نيكسون» المتجهم رجل المؤسسة العتيد الخبير بكواليسها وصناعة القرار فيها أية لمسات شخصية قادرة على اجتذاب القلوب.
لم يكن ممكنا لـ«كينيدى» أن يربح انتخابات (1960) بفارق محدود إذا ما كان قد تأخر العصر التلفزيونى.
من مفارقات القدر أن «رجل الآفاق الجديدة» جرى اغتياله و«رجل المؤسسة العتيد» صعد للموقع نفسه بعد فترة وجيزة قبل إزاحته بأثر فضيحة «ووترجيت».
فى الثانية، تقف أمريكا الآن عند مفترق طرق عكسى، وهاجسها الرئيسى: كيف تمنع التدهور المحتمل فى وزنها الدولى وتقدر بالوقت نفسه على حفظ تماسكها الداخلي؟
الفارق الرئيسى بين المناظرتين، أن الأولى جرت بقدر من الانضباط السلوكى، انطوت على نقاش فيما يهم الناخب الأمريكى، لا على صياح وانفلات ألفاظ وإهانات شخصية تجاوزت كل حد.
الفارق الرئيسى الآخر: تراجع سطوة العصر التلفزيونى لصالح العصر الإلكترونى وثورة الاتصالات، التى تسمح على مدار الساعة بتبادل المعلومات والأخبار أينما كنت فى منزلك أو خارجه.
لم تعد الصورة التلفزيونية على ذات قدر التأثير السابق، بقدر المعلومات المتدفقة والحضور الدائم للمتنافسين عبر وسائط عديدة.
هكذا أتاحت وسائل العصر الإلكترونى للأغلبية الساحقة من الناخبين حسم اختيارهم دون انتظار لما قد تسفر عنه المناظرات التلفزيونية.
رغم ذلك فإن المناظرات تساعد على حسم الأصوات المترددة وتخلق جوا عاما يزكى مرشحا على آخر.
بأثر ما جرى فى المناظرة ما بين الرئيس الحالى «دونالد ترامب»، ومنافسه الديمقراطى «جو بايدين» بدت التحديات التى تعترض الولايات المتحدة عن مفترق طرق جديد أكبر من المترشحين.
أولهما، شعبوى متفلت، أهدر بمقاطعاته، (73) مرة خلال المناظرة، فرصته فى تحسين موقفه الانتخابى.
ألحق بنفسه ضررا فادحا باستغراقه فى التهجم الشخصى دون أن يكون مقنعا فى تبرير سوء إدارته لجائحة «كورونا»، أو قادرا على طرح بدائل مقنعة ومتماسكة لمشروع الرعاية الصحية الذى يعرف باسم «أوباما كير».
كان خطأه الأكبر امتناعه عن إدانة الجماعات العنصرية البيضاء، كأنه يطعن نفسه بسيفه، فمثل هذا الامتناع يعنى انتخابيا خسارة الكتلة الأضخم من الأقليات السوداء واللاتينية والعربية والإسلامية.
حاول جبر الخطأ تاليا إلا أن آثاره نالت منه بفداحة.
وثانيهما، محافظ يفتقد إلى أية كاريزما، محنك بحكم خبرته السياسية الطويلة فى الكونجرس الأمريكى ونائبا للرئيس «باراك أوباما»، يكاد يتماس ــ هنا ــ مع «ريتشارد نيكسون» دون حضور الأخير وشخصيته القوية.
كان أكثر استعدادا للمناظرة وخضع لتدريب من مستشارين وخبراء، فيما تعالى «ترامب» بظن أن «جو النعسان» سوف يكون فريسة سهلة.
حاول «بايدن» أن يأخذ سمة رجل الدولة المحنك والهادئ، الذى لم ينل تقدمه فى السن من قدرته على التركيز فى الاستجابة للضغوط، دون أن يتيح لـ«ترامب» فرصة الإمعان فى إهانته والتقليل من مستوى ذكائه.
«هل يمكن أن تغلق فمك يا رجل؟».
كانت تلك جملة معدة سلفا من خبراء لاستخدامها فى اللحظة المناسبة حتى يكتسب صفة الرجل القوى الذى يستطيع الرد بمثله.
اكتسب نقاطا يحتاجها لتحسين صورته العامة كمرشح جدى له مقومات تزكيه أكثر من كراهية «ترامب»، كما لو أن التصويت لصالحه نوع من التصويت العقابى لا اقتناعا به.
حسب استطلاعات الرأى العام التى تلت المناظرة الأولى بين «ترامب» و«بايدن» فقد ربحها الأخير، لكن يظل الصراع الانتخابى ضاريا حتى اليوم الأخير (3) نوفمبر.
وبأثر ما جرى فى المناظرة برز اتجاه قوى لتعديل قوانين المناظرات بحيث لا يسمح لأحد المتناظرين مقاطعة الآخر بإغلاق الميكروفون عنه.
كانت تلك ضربة إضافية لـ«ترامب» تقوض استراتيجيته المعتمدة فى الهجوم المتتالى على منافسيه لإسقاط هيبتهم وإرباك أطروحاتهم.
ثم جاءت الإصابة المفاجئة للرئيس الأمريكى فى توقيت بالغ الحرج بوباء «كورونا» المستجد لتشل أكثر من نصف الوقت الباقى قدرته على الحركة والحضور.
قد تفضى تلك الإصابة بوباء هوّن من خطورته وأساء إدارة أزمته إلى وضعه تحت قصف إعلامى وسياسى مركز.
إذا ما كان هناك استخلاص رئيسى مما جرى فى المناظرة فإن كليهما، «ترامب» و«بايدن» ليسا على مستوى التحديات التى تتهدد الولايات المتحدة فى وزنها الدولى وتماسكها الداخلى.
فى قائمة التحديات الدولية أسئلة تدخل مباشرة فى تعريف القوة الأمريكية حجما ودورا ونفوذا شاملة العلاقات المتوترة مع الحلفاء الأوروبيين، وطبيعة الصراع مع الصين وحدوده، والشرق الأوسط بقضاياه وأزماته وحروبه الماثلة والمحتملة وما قد يطرأ من مستجدات.
وفى قائمة التحديات الداخلية، العنصرية المتجذرة فى بنية المجتمع الأمريكى والعنف الذى تتصاعد وتيرته بما قد يهدد بنية الدولة نفسها.
لا يمكن استبعاد سيناريو واحد بعد الثالث من نوفمبر، إذا ما خسر الرئيس الحالى نتائجها.
التشكيك المسبق فى نزاهة الانتخابات سابقة فى التاريخ الأمريكى.
الادعاء دون دليل على أنها قد تتعرض لتزوير واسع عبر التصويت بالبريد، وأن إعلانها قد يطول، يطعن فى الديمقراطية الأمريكية، وفى قدرة أكبر دولة فى العالم على إجراء انتخابات عامة تتوافر فيها شروط النزاهة.
القضية ليست من يكسب أو يخسر الانتخابات الرئاسية بقدر ما قد يحدث بعد الثالث من نوفمبر وأثره على القوة العظمى الأمريكية.