بقلم: عبد الله السناوي
كان الجو السياسى عصبيا ومرتبكا عند مركز القرار فى مثل هذه الأيام قبل عشرين عاما بالضبط.
لم يكن أحد يعرف كيف يتصرف ولا ما يتوجب فعله أمام موجات غضب تدفقت بمئات الألوف إلى الشوارع المصرية تضامنا مع الطفل الفلسطينى «محمد الدرة»، الذى جرى اغتياله يوم (30) سبتمبر (2000) برصاص قوات الاحتلال، وهو يحتضن والده مرتجفا من فرط الترويع.
بقوة تأثير شريط فيديو لدقيقة واحدة التقطه مصور تلفزيونى فرنسى التهبت المشاعر هنا فى مصر، شعر كل طفل مصرى كأنه هو الذى أطلق عليه الرصاص، وكل أب مصرى كأنه فقد صغيره دون ذنب بجبروت احتلال.
أضفت بشاعة القتل العمدى لطفل صغير زخما إضافيا على «انتفاضة الأقصى»، التى عمت الأراضى المحتلة فى اليوم السابق.
تسابق أطفال المدارس فى رسم علم إسرائيل على قمصانهم الداخلية قبل حرقها، لم يكن لديهم ما يكفى من نقود لشراء قماش يرسمون عليه ما يريدون حرقه.
لم يكن أحد يتوقع بعد سنوات طويلة من معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية أن تستقطب عدالة القضية الفلسطينية مشاعر وانحيازات جيل جديد لم يعاصر المواجهات العسكرية التى جرت قبل أن يولد، ولا خبر بنفسه طبيعة الصراع العربى – الإسرائيلى، وقيل له فى المقررات الدراسية أن سلاما قد جرى.
فى فوران الغضب طالب القادمون الجدد إلى الحياة العامة بوقف التطبيع مع إسرائيل وطرد سفيرها فى القاهرة.
استدعى الرئيس الراحل حسنى مبارك ما كانت تسمى بـ«المجموعة السياسية»، طال الاجتماع، غير أنه لم يتوصل إلى قرارات لها صفة الجدية والإقناع وقادرة على تهدئة الرأى العام الغاضب.
فكر «مبارك» أن يطرح السؤال مجددا على مجموعة ضيقة من رؤساء تحرير الصحف المصرية، التقاهم مباشرة بعد «المجموعة السياسية«: «ماذا نفعل؟».
كانت الفكرة الأصلية أن يلتقى أولا ﺒ«المجموعة السياسية»، ثم رؤساء الأحزاب، لكنها عدلت ــ فى شقها الثانيــ باجتماع مع رؤساء التحرير، وجرى الاتصال بهم على عجل للتوجه فورا إلى رئاسة الجمهورية.
لم يكن أحد فى مركز القرار مقتنعا أن هناك جدوى من أى حوار وتشاور مع رؤساء الأحزاب، التى جرى تجريفها على مدى عقود، وبدا أن مخاطبة الرأى العام عبر الإعلام أكثر جدوى وأثرا.
بدت «المجموعة السياسية» عاجزة عن التوصل لأية قرارات تساعد على ضبط الشوارع الغاضبة، إذ أن طبيعة نظام الحكم لم تكن تسمح فى مثل هذه الملفات الحساسة بطرح تصورات وأفكار جديدة، أو الإقدام على أية مراجعات فى السياسات المتبعة.
كان الإعلام هو المخرج المتاح من أزمة الشوارع الغاضبة.
عند دخول الرئيس إلى قاعة الاجتماع مع رؤساء التحرير توجه وزير الإعلام «صفوت الشريف» لعدد من رؤساء التحرير بإشارة موحية: «الجو متكهرب».
كانت تلك رسالة صريحة بعدم انتقاد السياسة المصرية، لكن «مبارك» أخذ زمام النقد، هاجم إسرائيل، وخص «شارون» بالسخرية المفرطة، فهو: «يأكل خروف بمفرده»، لكنه «بخيل فقد دعا مدير المخابرات المصرية عمر سليمان على غداء فى بيته لم يزد عن طبق من السجق»، و«سياساته سوف تذهب بالمنطقة إلى الجحيم»، ثم هاجم الولايات المتحدة وإدارتها بمرارة زائدة.
فى ذلك اليوم بأجوائه وضغوطه فى الشوارع حاول رئيس تحرير مجلة قومية أن يحرضه على جريدة «العربى» قائلا: «إن هناك صحيفة مصرية نشرت فى مانشيتاتها الرئيسية هتاف تردد فى تظاهرات الغضب.. واحد اثنين.. الجيش المصرى فين».
سأله مبارك: «هنا فى مصر!».
ــ «نعم.. يا فندم».
باغته بما لم يتوقعه، وهو ينظر نحوى: «الصحف المصرية وطنية ولا قيد على ما تنشره».
كان ذلك تعبيرا عن حسن تقدير للموقف الصعب الذى تقف فيه البلاد، وأن أى تحرش بصحافة المعارضة يمس الأمن العام ويزيد الأزمة تعقيدا واشتعالا.
فيما رواه «مبارك» فى ذلك اليوم إنه بعد فترة وجيزة من صعود «آرييل شارون» إلى رئاسة الحكومة الإسرائيلية كان فى زيارة إلى الولايات المتحدة.
فى أحد الاستقبالات الرسمية التى نظمت للرئيس المصرى اقترب منه عضو بارز فى «الكونجرس» قائلا بصورة مقتضبة وصريحة: «اسمح لى يا سيادة الرئيس أن أقترح عليك أن تأخذ طائرتك من هنا إلى القدس لزيارة شارون.. هذه الخطوة تضمن لك جائزة نوبل للسلام، ومستشارة الأمن القومى الأمريكى كونداليزا رايس مستعدة أن تتعهد أمامك الآن بحصولك عليها».
مبارك بادره بالرد: «لا أريد هذه الجائزة». غير أنه طلب ــ وقتها ــ عدم نشر تلك القصة فى الصحف، وقال بالحرف: «العربى.. لا تنشر»، لكنى عدت ونشرتها عام (2008) حتى لا يفلت المعنى بالنسيان والتقادم.
رواية «مبارك» تكشف بعض أسرار وكواليس «جائزة نوبل»، والأهداف التى تصاحب ــفى بعض الحالاتــ الحصول عليها! غير أن المعنى الأهم فيها أنه كان يدرك خطورة التورط فى زيارة إسرائيل، وأن مثل هذه الخطوة تمثل تحديا خطيرا للمشاعر العامة، وأن تداعياتها قد تدفع نظام حكمه إلى ذات المأزق الذى أودى فى النهاية بالرئيس «السادات».
باستثناء مشاركته فى جنازة رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق «اسحاق رابين» رفض «مبارك» الضغوط المتكررة عليه لزيارة إسرائيل. وفيما يبدو أنه استخلص من حادث المنصة درسا جوهريا حكم إدارته لشئون الدولة على مدى سنوات رئاسته يتلخص فى سيادة التفكير الأمنى، وهذا التفكير ــ بطبيعته ــ يتجنب الصدمات الكبرى وتداعياتها على أمن النظام.
بنص كلامه فى ذلك اليوم العاصف قبل عشرين عاما فإن «التطبيع أحد الأبواب المفتوحة أمام الإسرائيليين لاختراق المجتمع المصرى فى سيناء، والقيام بشغل مخابرات».
ارتفعت أصوات فى الاجتماع المغلق تطالب بوقف التطبيع.
لم يمانع «مبارك» فى إعلان مثل هذا القرار فى بيان يصدر عن مجلس الوزراء ويوقعه رئيسه فى ذلك الوقت الدكتور «عاطف عبيد».
كان واضحا وصريحا دون مساحيق تجميل: «لن ينفذ»، و«أنا لا أضع توقيعى على بيان لن ينفذ».
صدر البيان عن مجلس الوزراء، وكانت له فى العالم العربى أصداء واسعة اعتقدت أن الدولة العربية الأكبر والأهم بصدد مراجعة سياساتها ومواقفها تجاه إسرائيل.
كان ذلك الاعتقاد إفراطا فى الأمانى ورهانا فى غير محله.
بشىء من التحسب للعواقب أضاف «مبارك» جازما: «القدس خط أحمر.. ومن يوافق على التفريط فيها ثمنه رصاصة».
كانت تلك العبارة بحذافيرها من مأثورات الزعيم الفلسطينى «ياسر عرفات».
فى النصف الثانى من تسعينيات القرن الماضى دأب «فاروق قدومى» رئيس الدائرة السياسية فى منظمة التحرير الفلسطينية على ترديدها كلما أتيحت أمامنا فرصة لقاء على انفراد فى فندق قاهرى يطل على النيل.
ذات لقاء طرحت عليه سؤالا يتعلق بمصير القدس واحتمالات التفريط فيها فى أية مفاوضات لاحقة.. صنع بيده اليمنى شكل مسدس، ثم لوح بيده كأن رصاصة تنطلق.. قائلا: «هذا هو مصير من يفرط فيها حتى لو كان عرفات نفسه».
بعد عشر سنوات من ذلك الحوار فى قصر «الاتحادية»، الذى استدعته مظاهرات الغضب على مقتل الطفل الفلسطينى «محمد الدرة»، عاد «تلاميذ المدارس» إلى الشوارع مرة أخرى، وقد أصبحوا شبانا يتطلعون إلى أن تلحق بلادهم بالعصر دولة ديمقراطية حديثة.
استلفتت تلك الملاحظة الأديبة الراحلة «رضوى عاشور».
هكذا بدا فوران الغضب فى مطلع أكتوبر (2000) كإشارة ونبوءة تغيير لما سوف يحدث فى «يناير» (2011).