بقلم: عبد الله السناوي
فور إطلاق سراح «نيلسون مانديلا» من سجنه الطويل زار دولا إفريقية فى مقدمتها مصر.
كان ذلك حدثا مدويا ومفعما بالمشاعر الجياشة.
طلب من بروتوكول رئاسة الجمهورية أن يكون بجواره فى العشاء الرسمى صديقه القديم «محمد فائق»، رجل «جمال عبدالناصر» فى إفريقيا، الذى تعاون معه لإزاحة الحكم العنصرى قبل أن يدخل سجنه الطويل قائلا: «بيننا موعد تأخر ٢٧ عاما».
حسب رواية «فائق» ـ كما استمعت إليها ـ فإنه ذهب إلى منشية البكرى وبصحبته المناضل الجنوب إفريقى «نيلسون مانديلا» للقاء «عبدالناصر».
انتظرا سويا أن ينتهى اجتماع بين «عبدالناصر و«تيتو»، غير أن الاجتماع طال عما كان مقررا، وجد «مانديلا» نفسه مضطرا للمغادرة حتى يلحق بطائرته على أن يعود مرة أخرى للقاء الزعيم العربى، وهو ما لم يحدث أبدا.
زار ضريح «عبدالناصر»، ووصفه بأنه «زعيم زعماء إفريقيا».
خاطب رجلا رحل منذ سنوات طويلة إنه كان يحاول أن «يشب» على قدميه من على طرف القارة «حتى ترانى».
تلك إشارة تخيلية لحجم الرهان الإفريقى على الدور، الذى كانت تلعبه مصر فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى.
رغم استقباله الرسمى فى القاهرة عندما زارها بعد تحريره، فإن نظام الحكم وقتها لم يدرك القيمة التى اكتسبها فى الضمير الإنسانى المعاصر، ولا ضرورات بناء علاقة خاصة مع جنوب إفريقيا الحرة، أو التوقف عن التنكر للقارة الإفريقية وقضاياها.
بعد سنوات من مغادرته الاختيارية لمقعده الرئاسى أشرف «مانديلا» على ملف بلاده لتنظيم كأس العالم لكرة القدم.
كان أسوأ ما حدث فى أروقة الحكم، حيث كانت مصر قد رشحت نفسها لتنظيم ذات البطولة، وصف «مانديلا» بأنه «شوية كراكيب» ـ على ما روى لى الأستاذ «محمد حسنين هيكل» نقلا عن مسئول كبير متصل بالملف فى منتصف مايو (٢٠٠٤).
بدا «هيكل» منزعجا من العبارة وحماقاتها: «الرجل وراءه أسطورة».
من مفارقات التاريخ أن نظام الحكم، الذى استهتر به، سقط فى (١١) فبراير (٢٠١١) بعد واحد وعشرين عاما باليوم من إطلاق سراح «مانديلا».
بصياغة «محمد فائق» فى كتابه «عبدالناصر والثورة الإفريقية»: «عندما كشفت مصر عن وجهها الإفريقى الصحيح لأول مرة فى تاريخها الحديث بعيدا عن فكرة الإمبراطورية التى ظلت تملأ عقول زعمائنا الوطنيين حقب طويلة من الزمن، وأعلن عبدالناصر انتماء مصر للحركة الإفريقية وتحملها عبء حركة التحرر الإفريقية، وأصبح هذا الانتماء جزءا لا يتجزأ من الشخصية المصرية، كان قد أضاف بذلك حضارة مصر العريقة لتصبح رصيدا لإفريقيا كلها بجانب حضارتها الزنجية، وهو شىء كانت إفريقيا فى مسيس الحاجة إليه، وهى ما زالت فى مرحلة تتحسس فيها جذورها لتستقى منها ما تدفع به حركتها أمام العالم وفى مواجهة قوى الاستعمار الشرسة».
قد تبدو هذه الشهادة لمن لم يعاصروا التجربة ولا قرأوا عنها واطلعوا على وثائقها تحليقا فى الإنشاء السياسى، لكنها فى الحقيقة تعكس بدرجة عالية من الدقة الدور الذى لعبته مصر، ولا يزال ماثلا فى ذاكرة القارة.
لم تكن مصادفة أن ترشح صحيفة «التايمز» البريطانية ـ مع مطلع القرن الحادى والعشرين ـ «عبدالناصر» و«مانديلا» مع الأديب الروسى «ليو تولستوى» للفوز بلقب «الشخصية الأعظم» فى العالم.
تحت عنوان «البحث عن الأفضل»، الذى كتبه الصحفى البريطانى «آدم شروين»، تساءلت يوم (٢٣) فبراير (٢٠٠١): «من هى الشخصية الأكثر تأثيرا وإلهاما فى التاريخ؟».
فى ذلك الوقت نظمت هيئة الإذاعة البريطانية «بى بى سى» استطلاع رأى لاختيار الشخصية البريطانية الأعظم.
استقر رأى البريطانيين على أنه «ونستون تشرشل» بوصفه الأكثر احتراما فى تاريخ الأمة.
كما اختار ـ فى استفتاء مماثل ـ (٣) ملايين ألمانى «كونراد إديناور» مستشار ألمانيا الفيدرالية بعد الحرب العالمية الثانية بوصفه تجسيدا للعزة الوطنية.
نجاح الاستفتاءين أغرى المؤسسة الإعلامية العريقة لدعوة المشاهدين فى كل أرجاء المعمورة، لتحديد الشخصية الأكثر تأثيرا فى التاريخ.
لم يتم الاستفتاء بتدخل من جهات عربية حتى لا تأتى النتيجة لصالح «عبدالناصر».
ما نحتاجه ـ بالضبط ـ أن ندرك الحقائق، أو ألا نهدر ما يستحق الاعتزاز به دون التخلى عن حق النقد والاختلاف.
لأى شعب موارد تاريخية تنتسب إلى معارك خاضها مع شعوب أخرى وفواتير دم دفعها من أجل قضايا بعينها.
إهدار الموارد التاريخية خطيئة لا تغتفر.
بتعبير الأستاذ «هيكل»: «لا تراهن على التاريخ وحده أيا كان بريقه، فالمصالح تسبقه فى العلاقات بين الدول».. «قد تساعد العلاقات القديمة فى التمهيد لتبادل لغة المصالح بشىء من الود، لكن لا تنس أنها مجرد تمهيد قبل الدخول فى صلب المصالح المتبادلة».
من أسوأ ما جرى بعد «عبدالناصر» أن ما استقر عميقا فى القارة السمراء أهدر فادحا فى السياسات.
على لسان قروى إفريقى من كينيا رصد الروائى الكبير «بهاء طاهر» المفارقات التى جرت فى شهادة توليت نشرها على صفحات جريدة «العربى»:
«كنت فى رحلة من العاصمة نيروبى إلى مدينة كينية أخرى، وتوقفت بالسيارة فى قرية صغيرة على الطريق فتوجهت مع مجموعة من جنسيات مختلفة نبحث عن سجائر فى ذلك المكان. دلونا على دكان صغير يشبه مثله فى أى قرية من قرانا؛ حيث تتكوم أجولة السكر والدقيق فى ناحية وبجوارها صفائح الزيت وقطع الصابون المرصوصة، وأوعية تضم حلوى للأطفال، ورف للسجائر.. إلخ، ووسط كل تلك الفوضى كان هناك فى صدر المحل صورة مثبتة بالدبابيس فى الحائط صورة ملونة قديمة لوجه يتبسم وكنت أعرفه جيدا.
عندما اشتريت السجائر من صاحب الدكان العجوز، سألته بشكل عابر:
ـ صورة من هذه المعلقة هناك؟
فالتفت الرجل خلفه فى دهشة مشيرا إلى الصورة وهو يسألنى؟
ـ ألا تعرف من هو؟
ـ لا.
فقال الرجل ببساطة: هذا هو أبو إفريقيا.
لن أنسى ما حييت البساطة واليقين فى لهجة هذا الرجل الأشيب وهو يقول لى بلكنته الإفريقية This is the father of Africa وقفت صامتا للحظة. كنت قد تركت مصر وقتها وصحف العهد تتبارى فى الهجوم على عبدالناصر، لم يترك الكُتاب نقيصة إلا وألصقوها به، وكان نشر صورته أيامها من المحرمات، ناهيك بالطبع عن إذاعة صوته أو الإشارة إلى أى شىء حسن فعله فى حياته، حتى بحيرة ناصر خلف السد العالى، معركته الكبرى وإنجازه الباقى، شطبوا اسمه من عليها مخافة أن يذكر الناس به».
مشكلة مصر فى إدارة أزماتها الإفريقية التى تنشأ من وقت لآخر أنها تتذكر التاريخ فى غير موضعه وتبنى عليه بغير أساس.
التاريخ حاضر فى الذاكرة العامة، فالإفريقى يعتد بمعاركه للانعتاق من التمييز العنصرى، ويعتز بأبطاله التاريخيين من أمثال «عبدالناصر» و«نكروما» و«لومومبا» و«نيريرى» و«مانديلا»، لكنه لا يعيش فى الماضى.
لديه كوابيسه وأحلامه وتساؤلات عن مستقبله.
لا ينكر قيمتها التاريخية لكنه يدرك أن القضايا المشتركة والمعارك الملهمة فى الماضى لا تصلح عنوانا أبديا لعلاقات الدول.
موارد التاريخ ضرورية بقدر ما تبنى على ما بنيت، وأن تكون حاضرا ومؤثرا ومستجيبا لتحديات عصرك.
موارد التاريخ تفسح المجال لكنها ليست المجال ذاته.
أخلينا مواقعنا عن استهتار بالغ بالمصالح المصرية العليا وزحف آخرون على المواقع التى أخليت.
لم يكن ذلك سوء تقدير سياسى بقدر ما كان منهجا جديدا فى الحكم.
فى وقت واحد تزامن تفكيك مقومات الاقتصاد الوطنى والقرار الوطنى، ورهن البلد كله لخيار وحيد وضع (٩٩٪) من أوراق اللعبة فى يد الولايات المتحدة.
كانت تلك دعوة لإسرائيل وغيرها أن تملأ الفراغ.
وكانت تلك مأساة كاملة لبلد قاد حركات تحريرها، ولعب الدور الأكثر جوهرية فى تأسيس «منظمة الوحدة الإفريقية» «الاتحاد الإفريقى الآن».