توقيت القاهرة المحلي 07:53:02 آخر تحديث
  مصر اليوم -

أزمة التراكم فى مصر

  مصر اليوم -

أزمة التراكم فى مصر

بقلم: عبد الله السناوي

لم يسر التاريخ المصرى الحديث من مرحلة إلى أخرى، ومن تطور إلى آخر بطريقة طبيعية.
كل ولاداته «عمليات قيصرية»، وكل هزائمه «عمليات إجهاض».
انتفاضاته متصادمة وثوراته متصارعة.
الأسوأ تجريف التراكم، كأن التاريخ يبدأ كل مرة من جديد.
هذه حقيقة لا يمكن إنكارها.
إذا أردنا أن نواجه أنفسنا بالحقائق فإن تجريف التراكم مرة بعد أخرى هو جذر الأزمات المتوارثة والمستجدة، كأننا لا نتعلم من دروس التاريخ وتجاربه التى دفعت أثمانها من حياة ومستقبل المصريين، ونكرر الأخطاء نفسها.
ما جرى لـ«الثورة العرابية» بعد هزيمتها واحتلال مصر عام (1882) أسس لعمليات تجريف متواصلة.
اغتيلت أولى حلقات الثورة الوطنية المصرية الحديثة من جهات متناقضة، شملت سلطات الاحتلال البريطانى وأسرة «محمد على»، التى تهدد وجودها فى الصميم، وقيادات ذات وزن وتأثير واحترام مثل الإمام «محمد عبده»، وأمير الشعراء «أحمد شوقى»، والزعيم الوطنى الشاب «مصطفى كامل».
ارتبك الضمير العام حتى إنه لم يعد يدرك لماذا ثار.. وكيف انكسر.. من أبطاله ومن خونته؟
ثم تكرر الارتباك نفسه فى الضمير العام بتجاهل ثورة (١٩١٩) لـ«أحمد عرابى» حين تبنت رواية إدانته، لم تر نفسها امتدادا وتطويرا فى ظروف مختلفة دوليا وإقليميا لثورته التى جسدتها المؤسسة العسكرية المصرية الوليدة.
لم يرد اعتبار ثورة «عرابى» بصورة كاملة إلا بعد قيام ثورة (١٩٥٢).
قيل إن ثورة «يوليو» قد فعلت ذلك، لأنها أيضا ثورة عسكرية!
كان ذلك إهدارا بالتعسف لقيمة الثورة العرابية وحقها فى رد الاعتبار.
لم تكن الثورة العرابية عملا مثاليا، شأن أية ثورة أخرى، لكنها مثلت فى زمانها محاولة الكبرى للانتقال من وضع إلى آخر أكثر عدلا ومساواة.
بذات القدر تبدت مساجلات استهلكت زمنا طويلا بين نقاد تجربة «أحمد عرابى» حول ثورة (١٩١٩).
تلخصت وجهة نظر «الحزب الوطنى»، الذى أسسه «مصطفى كامل»، فى حملات وانتقادات، بعضها صحيحة وموثقة لـ«سعد زغلول»، غير أن منهج النقد الذى اتبعه كتابه ومؤرخوه افتقد إلى حقيقة كادت تضيع فى زحام التنافس السياسى، وهى أنه أعطى ثورة (1919) رمزيتها الملهمة وتجسيدها الحى، رغم ما هو منسوب إليه من صلات وثيقة سابقة مع سلطات الاحتلال البريطانى، وأن الثورة فاجأته.
عندما جاءت «لجنة ملنر» لتقصى آراء المصريين فى الاستقلال كانت إجابة الفلاحين فى الحقول واحدة: «اسألوا سعد باشا».
فى تلك اللحظة الحاسمة من تاريخ مصر، وبعد أن انتهت الحرب العالمية الأولى تجسدت إرادة الاستقلال حول ذلك الرجل الستينى.
لا يليق بأى منطق تاريخى أن يُقال إن «سعد زغلول» سرق الثورة من الحزب الوطنى حزب «مصطفى كامل» وخليفته «محمد فريد».
الأدعى أن نناقش لماذا أخفق الحزب الوطنى فى قيادة مصر ــ بعد «مصطفى كامل« ــ إلى الثورة التى كانت بشائرها فى الأفق؟
ـ هل لأن «محمد فريد» خليفة «مصطفى كامل»، وهو زعيم وطنى مستنير وقيمته الأساسية فى قوته الأخلاقية، قد غادر إلى ألمانيا هروبا من حملات الاعتقال، أم لأن الحزب الوطنى نفسه لم يكن مهيئا بطبيعة أفكاره وبرامجه لأن يقود ثورة تبلورت دواعيها فى عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى ونداءات التحرر الوطنى وتقوض الإمبراطورية العثمانية؟!
ثورة «يوليو» تعرضت لاتهام من نفس النوع بأنها سرقت الثورة من الشيوعيين، أو من «الإخوان المسلمين»، وهو كلام مرسل لا يسنده دليل وتعوزه الأسباب الحقيقية لصعود تيارات وقيادات بعينها وإخفاق أخرى.
ثم إنه لا يمكن إنكار حجم شعبية «سعد زغلول» وارتفاعه إلى مستوى الحدث التاريخى فى سياق مفاهيم العصر فأغلب الانتقادات تنصب على مرحلة ما قبل الثورة لا ما بعدها.
السؤال الأول، فى أية قراءة موضوعية ومنصفة لتاريخنا الحديث: أين المجرى الرئيسي؟
والسؤال الثانى، لماذا غاب عنه التراكم وتصادمت حلقاته؟
«مصطفى كامل» ضد «عرابى».. و«سعد زغلول» ضد «مصطفى كامل» و«عرابى».. و«جمال عبدالناصر» ضد «سعد زغلول»، حتى وصلنا إلى تصور أن «يناير» تناهض «يوليو»، رغم أنها أهدافها العامة تكاد تكون طبعة جديدة فى ظروف مختلفة لما طمحت إليه الثورة الأم، مع إضافة الحريات السياسية ثغرتها الرئيسية، التى نالت من قوة مشروعها.
الحقيقة ــ رغم أية مساجلات ــ إنها ثورة واحدة متعددة الحلقات، أضافت فى العمق كل منها للأخرى ومهدت لها.
أسوأ ما فى القصة كلها إهدار الإرث الوطنى باختلاف مدارسه وتجاربه، وإهدار خبرة التاريخ نفسه.. وهو أمر انتهى بنا فى نهاية المطاف إلى اعتلال فى الذاكرة الجماعية، حتى كادت تبهت المعانى الاستقلالية الحقيقية التى تراكمت، كأن أجيالا متعاقبة لم تحارب وتضحى وتقاوم من أجل أن يرفع هذا البلد رأسه وينتسب إلى عالمه شريكا وندا.
لا يعنى ذلك إغفال التباينات أو الأخطاء الفادحة التى وقعت، أو التمويه على التناقضات، وإنما وضعها فى إطار موضوعى تتعدد القراءات فيه دون نفى ما هو ثابت من التاريخ بالضرورة من تحولات ومعارك وقيم جرى الدفاع عنها.
لا شيء يولد من فراغ ولا مستقبل يتأسس على فجوات.
إذا ما أهدرت المعانى الكبرى، بالتجهيل أو النسيان، فلا أمل متوقعا بأى مستقبل، ولا رهان ممكنا على حيوية الأجيال الجديدة.
من حق الأجيال الجديدة أن تقرأ التاريخ على النحو الذى يتسق مع تطلعاتها وأحلامها بلا قوة قمع، وقهر روح، أو تزييف وعى وتغييب إرادة.
التاريخ لا يصنعه إلا الأحرار.
الحق فى الخطأ من طبيعة أى تقدم، فالذين لا يخطئون لا يتعلمون.
فى النهاية يصحح التاريخ نفسه ويرد اعتبار تضحياته وتجاربه، أيا كانت المثالب والأخطاء.
عندما لا نصحح فإننا نظلم الذين ضحوا بشرف لصالح من صعدوا بلا استحقاق.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أزمة التراكم فى مصر أزمة التراكم فى مصر



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon