بقلم: عبد الله السناوي
بقوة الصور المروعة بدا السودان بلدا منكوبا بسيول وفيضانات اجتاحت ولاياته، هدمت عشرات آلاف البيوت، وشردت مئات الآلاف من مواطنيه، وألحقت أضرارا باهظة فى الممتلكات والأرواح.
رغم ضراوة المأساة الإنسانية والاجتماعية فى السودان فإنه لم يحظ بدعم حقيقى يستحقه من عالمه العرب لجبر الأضرار الجسيمة، باستثناء الجسر الجوى المصرى محملا بأدوية ومستلزمات إغاثية عاجلة.
بصياغة معاصرة استوحت قصيدة الشاعر التركى «ناظم حكمت»: «أجمل الأيام.. تلك التى لم نعشها بعد» لخص ذات يوم الروائى السودانى «الطيب صالح» روح الأمل فى بلاده رغم الكوارث والانقلابات التى حلت بها.
«إننى أريد أن آخذ حقى من الحياة عنوة، أريد أن أعطى بسخاء، أريد أن يفيض الحب من قلبى فينبع الثمر، ثمة آفاق كثيرة لابد أن تزار، ثمة ثمار يجب أن تقطف، كتب كثيرة تقرأ، وصفحات بيضاء فى سجل العمر، سأكتب فيها جملا واضحة بخط جرىء».
إذا لم نطل عن قرب على الشخصية السودانية، بأحلامها وانكساراتها وقدرتها على الخروج من أعتى الأزمات مرة بعد أخرى، فإننا نحلق بالوهم فى فراغ التصورات.
وإذا لم يدرك العالم العربى أن التضامن مع السودان بوليصة تأمين لأمنه ومستقبله، فإننا قد نخسره شريكا حقيقيا فى أى حساب، أو عند أى منعطف.
أسوأ ما قد يحدث أن يترك السودان شبه وحيد وشبه منعزل تحت ضربات السيول والفيضانات، التى لم يسبق لها مثيل منذ قرن.
أرجو الالتفات، قبل فوات الأوان، إلى مغبة أى انعزال محتمل باليأس، فالسودان ليس تشاد، التى توشك أن تنشئ سفارة لها فى القدس المحتلة كأول دولة إفريقية جار.
فى مصر يمثل السودانيون أكبر جالية باللجوء الإنسانى، أو السياسى فى مرحلة سابقة، أكثر من مليونى مواطن، دون أن يرافق ذلك التواجد الكبير اتصالا ثقافيا وسياسيا يحاول أن يسد الفجوات المعرفية الواسعة.
هناك الآن قضية ملحة عنوانها إغاثة السودان غير أنها موقوتة بأسبابها ولملمة جراحها نحتاج بعدها لإعادة مد جسور الاتصال والتعارف والتلاقى التى أفضى تغييبها إلى أزمات ثقة متفاقمة.
لا يعقل أن نفاجأ فى مصر وعالمها العربى بانتفاضة السودان، التى أطاحت نظام «عمر البشير»، كأنها بلا مقدمات فى بنية المجتمع وتفاعلات داخل قواه الحديثة.
باستثناء أعداد محدودة من الباحثين يكاد الجهل بالسودان أن يكون مطبقا.
لم تنشأ الانتفاضة السودانية بالمصادفة بقدر ما كانت تعبيرا عن تراكمات غضب وإرادة تغيير عبرت عن نفسها فى «قوى إعلان الحرية والتغيير» و«تجمع المهنيين.
جرى تعاطف شعبى واسع مصرى وعربى مع الانتفاضة وقواها الحية دون أن تكون هناك أية أدوار إيجابية وفاعلة تساعد السودان على الانتقال من عصر إلى آخر بأقل التكاليف والأعباء.
على النقيض بدا الدور الإثيوبى فاعلا ونشطا ومتداخلا بالمبادرة فى الأزمة السودانية كوسيط بين المجلس العسكرى والقوى المدنية الحديثة.
كان ذلك استثمارا استراتيجيا أربك أى تحالف مفترض بين دولتى المصب فى أزمة السد الإثيوبى.
بتداعيات الفيضان وقدر ما خلفه من كوارث ومآس من غير المستبعد أن تستنتج قطاعات واسعة من السودانيين أن السد الإثيوبى عند استكماله ضمانة حماية من أية سيول وفيضانات تحدث بالمستقبل، فضلا عن فرص الحصول على الكهرباء بأسعار تفضيلية، دون نظر لأية أضرار منسوبة إليه، وربما دون عناية كبيرة بالتوصل إلى اتفاق ملزم مع دولتى المصب «مصر والسودان».
فى أوضاع الترويع والتدمير يصعب التفكير بعقلانية وتدبر فى الأضرار المحتملة مستقبلا وسبل تداركها.
إذا لم تسند المصالح ما يفترض أنها علاقات أزلية فإن كل سيناريو وارد.
هذا دور إجبارى يستدعى المبادرة بشراكة المصير مع السودان، وقبله العمل بكل جدية على سد الفجوات المعرفية معه.
للاتصالات الأمنية والدبلوماسية أهميتها، لكنها غير كافية وحدها.
المستجدات السودانية تؤكد على ضرورات بناء المصالح المشتركة دون إبطاء والانفتاح على قواه الحية بالحوار بين جماعات المثقفين والمهنيين على الجانبين دون مصادرة، أو وصاية.
هناك ــ أولا ــ اتفاقية سلام جرت فى جوبا بين الحكومة الانتقالية وبعض المجموعات المسلحة.
الاتفاقية تؤشر على مرحلة جديدة تلوح فى الأفق السودانى، يفترض معها التوجه إلى حلحلة الأزمات الاقتصادية كأولوية مطلقة.
هذا تحد يعترض مصر ويستدعى مد يد العون والمساندة بقدر ما تسمح ظروفها الصعبة.
هناك ــ ثانيا ــ تعثر ماثل فى المرحلة الانتقالية السودانية، بتفكك «قوى إعلان الحرية والتغيير»، كما بعدم الالتزام بمواعيد استحقاقات جوهرية تفضى إلى انتخابات نيابية وفق قواعد دستورية جديدة.
هذا تحد آخر يستدعى المبادرة بالمساعدة والدعم وعدم إفساح المجال لأدوار أخرى، إثيوبية وغير إثيوبية، تهمش الحضور المصرى وتضرب فى العلاقات بين الشعبين الشقيقين من عند الجذور.
هناك ــ ثالثا ــ أزمة داخلية متفاقمة فى إثيوبيا تضع قيودا غليظة على أية سيناريوهات تعمل على التوصل لاتفاق ملزم بشأن القضايا الخلافية فى السد الإثيوبى.
التصلب الإثيوبى فى المفاوضات المعطلة لم يعد خيارا بقدر ما هو ضرورة داخلية حتى لا يتفكك البلد، أو ينجرف إلى احترابات أهلية.
هكذا فإن القرار الأمريكى بفرض عقوبات على إثيوبيا يظل رمزيا ويمكن توظيفه فى التعبئة الداخلية.
هذا تحد من نوع آخر يستدعى بناء أكبر قدر من التوحد فى المواقف بين دولتى المصب.
وهناك ــ رابعا ــ ضغوط أمريكية لمقايضة رفع السودان من لائحة الإرهاب بالاعتراف بإسرائيل وتبادل التمثيل الدبلوماسى معها.
إذا ما جرى رفع العقوبات الأمريكية بشروط الصفقة المفترضة فإن مصر أول الخاسرين فى أمن حدودها الجنوبية وعند منابع نهر النيل شريان الحياة فيها.
أى تقاعس عن المبادرة فى أطر عربية وإفريقية وإسلامية وداخل حركة عدم الانحياز لرفع العقوبات دون اشتراطات مجحفة سوف يكون ثمنه باهظا.
تلك المستجدات وتحدياتها الصعبة تستدعى سد الفجوات المعرفية مع السودان وأهله، كما كان يطالب الكاتب الصحفى الراحل «يوسف الشريف».
هناك أزمة سودانية مكتومة تعلن عن نفسها من وقت لآخر، أن الشقيق والجار المصرى ينظر إلى بلادهم كمسألة أمنية دون اهتمام يذكر بإنتاجهم الأكاديمى والفكرى والثقافى والإبداعى، كأن طاقة البلد على الخلق والابتكار توقفت عند ثلاثة نجوم فوق العادة لمعوا فى أوقات سابقة هم: الروائى «الطيب صالح» والشاعر «محمد الفيتورى» والمطرب «محمد وردى».
فى وقته وحينه من ستينيات القرن الماضى عبر الثلاثة الكبار عن روح السودان المستقل، الذى يطلب الالتحاق بعصره بالثورة وينتسب لقضايا أمته بالمطلق، كما مثلوا بالقدر نفسه جسرا ثقافيا ووجدانيا بين العالم العربى والقارة الأفريقية.
الآن نكاد لا نعرف مواطن الإبداع فى السودان الجديد أدبا وفنا وإنتاجا فكريا، ولا شيئا يعتد به عن أحلامهم وانكساراتهم ونظرتهم إلى الحياة وعلاقاتهم بمحيطهم وعالمهم.
إذا ما جاز استعارة عنوان أشهر رواية سودانية «موسم الهجرة إلى الشمال» لـ«الطيب صالح» بالتعديل فإننا بحاجة ماسة فى مصر وعالمها العربى لموسم هجرة آخر، إلى الجنوب هذه المرة، بالحوار والاقتراب وبناء المصالح المشتركة.