بقلم: عبد الله السناوي
«ماذا لو هزمت إسرائيل؟».
كان ذلك سؤالا افتراضيا فى كتاب أمريكى نشأت فكرته حين التقى فى نيويورك ثلاثة صحفيين من مجلة «النيوزويك» على غداء عمل هم: «ريتشارد تشيزنوف»، و«إدوارد كلاين»، و«روبرت ليتل»، الذين غطوا أحداث حرب (1967) من الجانب الإسرائيلى.
رغم الطابع التخيلى لما جاء فى الكتاب، الذى صدر فى فبراير (١٩٦٩)، إلا أنه اعتمد بالأساس على أحداث واقعية.
وقد كان هدفه المباشر التأثير على صانع القرار الأمريكى طلبا لمزيد من الدعم لإسرائيل، رغم كل ما حازته من سلاح ومال وما حصدته من نتائج عسكرية فاقت كل توقع وحساب.
«إسرائيل دائما مهددة، وأمريكا مقصرة والعرب يتحينون فرص الانتقام».
كان ذلك تلخيصا لجوهر نظرية الأمن الإسرائيلى بالمبالغة فى الخوف والتخويف.
بأثر النشوة الإسرائيلية مما حدث فى (1967) أعادت صياغة نظرية أمنها بمفارقة مثيرة، فإسرائيل المحاصرة من جيرانها والمهددة فى وجودها هزيمتها غير ممكنة.
فى حرب الاستنزاف اهتزت نظرية الأمن الإسرائيلى قبل أن تتعرض للكسر فى أكتوبر (1973).
قبل أن تعبر القوات المصرية الجسور بقوة السلاح انطوى «التوجيه الاستراتيجى»، الذى صدر إليها، على مقاربة لافتة لأهداف العمليات العسكرية، التى على وشك الاندلاع.
كان نص «التوجيه الاستراتيجى»: «تحدى نظرية الأمن الإسرائيلى، وذلك عن طريق عمل عسكرى يكون هدفه إلحاق أكبر قدر من الخسائر للعدو وإقناعه أن مواصلة احتلاله لأراضينا يفرض عليه ثمنا لا يستطيع دفعه… وبالتالى فإن نظريته فى الأمن ــ على أساس التخويف النفسى والسياسى والعسكرى ــ ليس درعا من الفولاذ يحميه الآن، أو فى المستقبل».
بدا النص مقتضبا صياغاته واضحة والتزاماته محددة، كتبه الأستاذ «محمد حسنين هيكل» قبل أن يضيف إليه الرئيس «أنور السادات» بخط يده: «حسب إمكانيات القوات المسلحة».
لم تكن مبالغة بالإنشاء السياسى ما قيل فى الأيام الأولى لحرب أكتوبر من أنها كسرت نظرية الأمن الإسرائيلى، غير أن الإدارة السياسية أفضت إلى ترميم ما كسر وإضافة عناصر قوة غير مستحقة على نظرية الأمن الإسرائيلى حين حصلت بالسياسة على ما لم تحصل عليه بالسلاح.
راجعت إسرائيل تجربة الحرب، أعدت تقريرا مسهبا عن «التقصير» فيها، اعترفت بهزيمتها فى الأيام الأولى، لكنها حاولت تاليا أن تلخص النتائج فيما أطلقت عليه «لا نصر ولا هزيمة».
كان ذلك تأكيدا جديدا على أن هزيمتها غير ممكنة.
ثم تبدى بالوقت استعراضا مختلفا لما جرى ذهب إلى أن المصريين قد هزموا والإسرائيليين انتصروا.
شاعت تلك الرواية الإسرائيلية بأنحاء العالم، يكفى أن تطل على ما يكتب وينشر على الشبكة العنكبوتية، دون أن تنهض رواية مصرية ترد وتفحم بالوثائق الثابتة، وتؤكد الحقائق فى ذاكرة الزمن، حتى لا تنتصر إسرائيل بأثر رجعى وتتوارى تضحيات الرجال التى بذلت فى ميادين القتال، حين عبروا بشجاعة وقاتلوا بضراوة، وبذلوا فواتير الدم عن اقتناع أنهم يحاربون من أجل مستقبل بلادهم، قبل أن تخذلهم السياسة.
«رغم الموقف الضعيف فى بداية الحرب الذى بدت عليه إسرائيل، قلبنا الموازين رأسا على عقب وحققنا النصر».
لم تكن تلك صياغة متفلتة من رئيس الوزراء الإسرائيلى «بنيامين نتانياهو» بقدر ما كانت تعبيرا عن الأدبيات العسكرية والسياسية الإسرائيلية لنتائج حرب أكتوبر.
اعترافه بما تعرضت له القوات الإسرائيلية من هزيمة ساحقة فى الأيام الأولى من الحرب نصف الحقيقة التى لا يمكن إخفاؤها، لكنه أنكر نصف الحقيقة الآخر أن التدخل الأمريكى بإمدادات السلاح وتخاذل السياسة فى مصر سمح لإسرائيل الادعاء أنها الطرف المنتصر!
القضية ليست ماذا يقول «نتنياهو»، ولا ما يقول غيره من القيادات الإسرائيلية، بقدر ما هى ماذا نقول نحن، ومدى استعدادنا لمخاطر محدقة تنذر بتهميش الدور المصرى إذا ما قدر للحقبة الإسرائيلية أن تتمدد بالتطبيع المجانى، أو بالتقسيم القسرى لدول عربية، أو بالاستثمار فى أزمات وجودية تعترض البلد كأزمة «سد النهضة».
هناك موجة تطبيع تشمل أعدادا متزايدة من الدول العربية، ترى بالمغالطة أن مصالحها وأمنها ووجودها نفسه فى الاعتراف المجانى بإسرائيل.
إنه التخويف النفسى والسياسى والعسكرى، الذى صور لنظم عديدة أن نظرية الأمن الإسرائيلى لا يمكن كسرها بالحرب أو بغير الحرب، وأن الهزيمة قدر لا يمكن رده، وأن ذلك التخويف درع من فولاذ، يحمى الدولة العبرية الآن وفى المستقبل، كما يحمى أية دولة أخرى فى المنطقة تطلب الحماية والأمن باسم التعاون الاقتصادى وتبادل المنافع والمعلومات الاستخباراتية.
هذه هزيمة استراتيجية أمام نظرية الأمن الإسرائيلى، تناقض تضحيات وبطولات أكتوبر.
هكذا تندفع دولة مثل السودان إلى اتفاقية تطبيع، باسم واقعية سياسية ترى أن الشرط الأمريكى الرئيسى لرفع اسمها من على قائمة الإرهاب، أن تتخذ مثل هذه الخطوة، وأن يكون أقصى ما تطالب به بعض المعونات الاقتصادية!
السعودية تقف على الخط نفسه متأهبة لعقد اتفاقية تطبيع قريبا.
لم تكن التصريحات التلفزيونية، التى أطلقها الأمير السعودى «بندر بن سلطان» سفير السعودية الأسبق فى واشنطن محض رد على ما اعتبره جحودا ونكرانا لأدوار المملكة فى نصرة القضية الفلسطينية، بقدر ما كانت تمهيدا لقرب عقد اتفاقية تطبيع مع إسرائيل.
بالتاريخ فهو رجل على علاقات تاريخية وثيقة مع إدارة «جورج دبليو بوش» أثناء غزو العراق عام (2003)، وله صلات قديمة مع الإسرائيليين.
وبحكم عمله لسنوات رئيسا للاستخبارات السعودية فهو يعرف أهدافه مما يقول.
هكذا تصب السياسات والتحولات مجانيا فى طاحونة نظرية الأمن الإسرائيلى.
تقوى بغير استحقاق، تفرض إرادتها دون ممانعة، تطمح إلى قيادة الإقليم دون أن تتنازل عن مشروعها الاستيطانى وطبيعتها التوسعية.
نحن أمام نوع من المبايعة المجانية لـ«الحقبة الإسرائيلية»، أو إعادة تعريف للدولة العبرية، التى لم تعين أبدا منذ إعلان دولتها فى (15) مايو (1948) حدودها، ولا صاغت نظرية أمن وفق مصالح مشروعة، أو يمكن تقبلها وفق القوانين الدولية.
بالتماهى مع ما اسماه الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» بـ«سلام القوة» فإن كل شىء يتحرك باعتبارات الخوف والتخويف، وكل سياسة تستند إلى أدوات العملين العسكرى والسرى.
إذا ما مضى سيناريو التطبيع إلى آخره، دولة عربية بعد أخرى، فإن طبيعة الصراع لن تتغير، ولا إسرائيل بوارد تعديل نظرية أمنها.
مفتاح الموقف فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، وكل شىء قابل للانهيار إذا ما مضت القوة الإسرائيلية إلى نهاياتها والتخاذل العربى إلى آخره.
طالما أن العرب قد جاءوا إلى أعتاب الدولة العبرية خشية قوتها وطلبا لحمايتها، فإن ما يحفظ مستقبل إسرائيل المضى قدما فى تأكيد نظرية أمنها من رفع منسوب قوتها واستخدامها بقدر ما هو ممكن ومتاح، بأعمال عسكرية واستخباراتية ضد مواقع فى سوريا ولبنان والعراق لأهداف سياسية بالمقام الأول لإثبات حضورها بإرهاب الآخرين.
أيا ما كانت درجات التعاون الاقتصادى وأحاديث السلام المخاتل يكاد يستحيل تماما أن تتخلى إسرائيل عن نظرية أمنها ودواعيها لامتلاك القوة ووسائلها فى التخويف.
على أبواب الحقبة المخيفة يكاد الدور المصرى أن يكون مطلوبا إجهاضه بالتهميش حتى يكون ممكنا إفساح المجال للدور الإسرائيلى أن يكون مركز التفاعلات السياسية والاستراتيجية والاقتصادية.
بقدر التخاذل تكاد المنظومة العربية كلها أن تنهار.