بقلم: عبد الله السناوي
بدا مثيرا للالتفات والتساؤل عن مغزى أن يتصدر تمثال لرئيس الوزراء الروسى الأسبق «يفجينى بريماكوف» مدخل السفارة الروسية فى القاهرة مشارا إليه بـ«رجل الدولة».
بصورة مقاربة يمكن إطلاق الصفة نفسها على رئيس الوزراء المصرى الراحل «كمال الجنزورى».
كلاهما صعد إلى منصبه فى ظروف استثنائية ناقضت اعتقاداته وانحيازاته.
لم يكن «بريماكوف» مستعدا أن يتماهى مع مشروع تفكيك الدولة، أو أن يتقبل حكم المافيا، التى بدأت تحكم قبضتها على الاقتصاد والإعلام إثر انهيار الاتحاد السوفييتى السابق.
حاول بقدر ما يستطيع ضبط الأداء العام على فكرة بناء الدولة، لكنه اصطدم بحقائق القوة الجديدة وخرج من السلطة شبه مطرود بعدما كان مرشحا قويا لخلافة «بوريس يلتسين» فى الكرملين.
عند أول زيارة قام بها للقاهرة، التى عمل بها لسنوات طويلة مراسلا لصحيفة «البرافدا»، فكر أن يطل على شارع «شجرة الدر» بحى «الزمالك»، حيث كان يسكن فى ستينيات القرن الماضى.
فى تلك الزيارة التقى عددا من كبار الصحفيين المصريين، الذين تربطهم به صداقات قديمة، فى النادى الدبلوماسى بالقاهرة بدعوة من الدكتور «أسامة الباز» المستشار السياسى للرئيس.
بعبارة انطوت على مزيج من الود والعتاب بادره صديقه القديم الكاتب الصحفى «محمد عودة»: «ضيعتوا البلد يا بريماكوف»، قاصدا ما جرى فى موسكو من تطورات وانهيارات، على ما روى لى الدكتور «سامى عمارة» أبرز المراسلين المصريين بالعاصمة الروسية، الذى تابع الواقعة المثيرة.
اتهامات مماثلة لاحقت الدكتور «الجنزورى»، الذى تولى رئاسة الحكومة فى عهد «مبارك» بين عامى (1996) و(1999) عندما أسندت إليه مجددا بعد ثورة «يناير».
كلاهما، «بريماكوف» و«الجنزورى» حاول دون جدوى وقف النزيف الداخلى منتصرا لفكرة الدولة.
الأول، بإرث الحزب الشيوعى السوفييتى الذى يناقض التوجهات الجديدة.
والثانى، بإرث مدرسة التخطيط المصرية الذى يجافى ما يحدث من تحولات وسياسات باسم «الإصلاح الاقتصادى».
لم يكن «يلتسين» و«مبارك» مستعدين أن يكون بجوارهما رجل ثان قوى، معتد بنفسه يمارس صلاحياته كرئيس للحكومة من موقع الشريك فى صناعة القرار.
فى الحالتين طرد «رجل الدولة» بفائض الضجر من شخصيته القوية، ورد اعتباره بعد سنين لم تطل.
خلف «بريماكوف»، الذى تولى رئاسة المخابرات قبل أن تسند إليه رئاسة الحكومة، رجل المخابرات الشاب «فلاديمير بوتين»، الذى لم يخف فى أى وقت تأثره وإعجابه به، وعمل على تكريمه بعد رحيله أكثر من أى شخصية سياسية روسية أخرى.
تجربة «الجنزورى» اختلفت من زاويتين.
الأولى، قدر التشهير الذى تعرض له عندما خرج من السلطة عند نهاية تسعينيات القرن الماضى بطريقة مهينة غير مبررة، والعزلة التى فرضت عليه، لا يدعى ولا يستقبل فى أى محافل عامة.
والثانية، عودته إلى موقعه على رأس الحكومة بعد انقضاء عهد «مبارك» إثر ثورة «يناير» (2011).
فى بلد كمصر فإن المسئول يقال ولا يستقيل، وعندما يخرج من السلطة لا يعود إليها إلا نادرا.
صلب مشكلة «الجنزورى» مع «مبارك» قدر اعتداده بنفسه.
بعد إطاحة المشير «عبدالحليم أبو غزالة» وزير الدفاع الأسبق لم يسمح «مبارك» ببروز شخصية أخرى تشاركه الحكم والقرار.
كان الدافع المباشر لإطاحة الدكتور «الجنزورى» تصوره عن نفسه ودوره، فهو رجل ثان قوى، وليس سكرتيرا تنفيذيا لرئيس الجمهورية.
عند عودته من الخارج حيث كان فى رحلة عمل التف حوله فى صالون ملحق بمكتبه عدد من الوزراء يرحبون به كما جرت العادة، إلا أنهم فوجئوا به يطرح عليهم سؤالا استنكاريًا عن الأسباب التى دعتهم لعدم خروجهم لاستقباله فى المطار!
استخدمت الواقعة لحسم الصراعات داخل الحكومة وقتها، تمهيدا لتصعيد الدكتور «عاطف عبيد» إلى مقعد «الجنزورى»، حيث مضى بعيدا فى سياسات الخصخصة وبيع الممتلكات العامة.
سألت الدكتورة «آمال عثمان» وزيرة التأمينات والشئون الاجتماعية المقربة من أسرة الرئيس عما إذا كان قد حدث تغيير فى قواعد البروتوكول.. بما يلزم مجلس الوزراء بالخروج كاملا لاستقبال رئيسه عند عودته من الخارج؟!
لم يكن مسموحًا من رجل كـ«مبارك» عهد عنه التأنى الطويل والمبالغ فيه عند إصدار القرارات السياسية أن يتسامح مع أى تهديد محتمل لسلطاته المطلقة داخل نظام الحكم
أراد «الجنزورى» فعلا أن يكون رئيس حكومة قويا، تمددت سلطاته بما أثار حفيظة «مبارك»، واستخدم خصومه نوازع الهيمنة عنده للإطاحة به.
على عهد «مبارك» جمعته بالمشير «محمد حسين طنطاوى» صلات ود.. العمر متقارب، الطباع الشخصية تميل عنده إلى انضباط الأرقام والحسابات والحزم فى العمل وهى طباع تقترب من شخصية رجل الضبط والربط والالتزام فى التنفيذ. ربما لهذا السبب مال من موقعه رئيسا للمجلس العسكرى إلى ترشيحه لخلافة الدكتور «عصام شرف» فى رئاسة الحكومة.
لم يكن «الجنزورى» مرشحه الأول، عرض خلافة «عصام شرف» على آخرين قبله، آخرهم طلب فسحة من الوقت لاستشارة عائلية، وعندما أبلغ «المجلس العسكرى» بموافقته كانت رئاسة الحكومة قد ذهبت إلى «الجنزورى».
جماعة «الإخوان المسلمين» اعترضت على الأسماء التى جرى التداول فيها واحدا إثر آخر واستقرت على دعمه فى النهاية، لم يكن هناك بديل آخر.
بدأ الصدام مبكرا، فالجماعة تريد أن تهيمن على مفاصل الدولة و«الجنزورى» يمانع فى أهدافها. قرر أن يتصرف على طريقته، أن يكون حازما ومباشرا. هكذا لوح بحل البرلمان أمام «سعد الكتاتنى»، الذى كان يتولى رئاسته.
كانت تلك معركة كبرى تبدت فيها طبيعة شخصية «الجنزورى».
فيما كانت الجماعة تحرض عليه وتدعو إلى إقالته من تحت قبة البرلمان، أو فى تظاهرات الميادين العامة، فكرت بعد أن كسبت انتخابات الرئاسة أن تسند إليه رئاسة الحكومة مجددا، فهو «رجل الدولة» الذى يعرف كواليسها ومفاتيح إدارتها فيما هى لا تعرف شيئا.
بعد مساجلات داخلية استقر أمرها على إزاحته حتى يمكن «التكويش» على السلطة كاملة.
كان ذلك خطأ فادحا أفضى إلى ما أسميته وقتها: «دولة الهواة»، التى تقوضت بعد عام واحد.
تجربة «الجنزورى» محافظا ووزيرا ورئيسا للوزراء مرتين ثرية وعريضة وكامل أسرارها لم يفصح عنها بعد، مراجعة تضاريسها وما جرى فيها ضرورى لسلامة النظر إلى المستقبل.
إذا ما قدر أن يلخص «الجنزورى» فى جملة واحدة، فهو كـ«بريماكوف»: «رجل الدولة».