بقلم: عبد الله السناوي
إذا ما قدر للمرشح الديمقراطى «جو بايدن» حسم الانتخابات الأمريكية مطلع نوفمبر المقبل، على ما تتوقع استطلاعات الرأى العام المتواترة، فإن نائبته على بطاقة الترشح «كاملا هاريس» قد يتجاوز دورها بجواره ما هو معتاد ومألوف فى تقرير السياسات الأمريكية.
بعوائق السن يصعب على «بايدن» التفكير فى ولاية ثانية، إذا ما فاز بالانتخابات الحالية، فهو الآن فى الثامنة والسبعين من عمره.
لتسويغ توليه الرئاسة الأمريكية فى ذلك العمر المتقدم تعهد مسبقا بألا يترشح لدورة ثانية عند انتهاء ولايته عام (2024).
إذا سارت الأمور حسب استطلاعات الرأى العام فإننا فى انتظار «كاملا هاريس» عند ثلاث محطات مفترضة لا يمكن استبعاد أى منها.
الأولى، نائبة رئيس تتمتع بنوع من الشراكة فى صنع السياسات، لا محض سيدة سوداء من أسرة مهاجرة، الأم من جذور هندية والوالد من جاميكا، وضعت على بطاقة الترشح لاجتذاب أصوات الأقليات.
الثانية، رئيسة بقوة الدستور إذا ما طرأ للرئيس عارض صحى، أو قانونى يمنعه من تولى مهامه.
والثالثة، رئيسة بالانتخاب بعد أربع سنوات عندما تكون قد وصلت إلى الستين من عمرها، إذا ما صادفت تجربة الحكم نجاحا يعتد به فى ترميم علاقات الولايات المتحدة مع حلفائها الأوروبيين وإدارة الصراعات الاقتصادية مع التنين الصينى وتخفيض التوتر العرقى الداخلى.
بصورة أو أخرى فإن من يتولون منصب نائب الرئيس يطمحون إلى المنصب الأول عندما يحين وقت التغيير بطوارئ المرض، والموت والاغتيال، أو بالانتخاب عند انقضاء ولايتى الرئيس.
بالحساب العرقى فى بلد متنوع يعانى من وطأة العنصرية فإنها أول سيدة سوداء مرشحة موضوعيا أن تصل إلى الموقع الأول فى النظام السياسى الأمريكى.
وبالحساب التاريخى فإنه من غير المستبعد أن تكون الشخصية السادسة عشرة فى قائمة من صعدوا من ظل الرئيس إلى المكتب البيضاوى.
إذا ما طالعت قائمة نواب الرئيس بعد الحرب العالمية الثانية، الذين صعدوا للموقع الأول، فإنها تضم رئاسات فوق العادة، كـ«هارى ترومان«، و«ليندون جونسون»، و«ريتشارد نيكسون»، و«جيرالد فورد»، و«جورج بوش» الأب.
التساؤلات الجوهرية تطرح الآن نفسها على العالم كله عما قد يطرأ فى الولايات المتحدة من تحولات وانقلابات سياسية عقب الانتخابات الرئاسية بقدر الدور المركزى الذى تلعبه فى السياسات الدولية.
إلى أى حد، وفى أى اتجاه، وبأية سياسات دولية وداخلية يمكن أن تمضى القوة العظمى الأمريكية فى عالم جديد تطرح حقائقه احتمالات تراجعها؟.. وما مدى انعكاسها على ملفات وأزمات الإقليم الأكثر اشتعالا بالحروب والنيران؟
هناك ما هو ثابت بحكم المصالح والاستراتيجيات شبه الراسخة، وهناك ما هو متغير بحكم طبائع الرئاسات والأولويات التى تتبناها وقدر ما تتمتع به من كفاءة.
نكاد ألا نعرف شيئا له قيمة عن السيدة القوية القادمة إلى البيت الأبيض، ما لم تحدث معجزة ما فى اللحظات الأخيرة تنقذ فرص الرئيس الحالى «دونالد ترامب».
إحدى مشاكلنا تغليب الأهواء على الحقائق وغياب الانفتاح على التنوع السياسى الأمريكى، كأن الولايات المتحدة إحدى دول العالم الثالث يحكمها رجل واحد.
قبل صعود الرئيس «بيل كلينتون» اقترح الدكتور «إدوارد سعيد»، الذى كان على صلة قوية ببعض أركان فريقه الانتخابى على شخصية فلسطينية مقربة من «ياسر عرفات» تولت لبعض الوقت ملف السياسة الخارجية الفلسطينية، فتح قنوات اتصال مع المرشح الديمقراطى فقيل له بالحرف: «بوش يزعل!».
شيء من تلك المقاربة تحدث الآن.
كانت الإطلالة التلفزيونية لـ«كاملا هاريس» فى المناظرة الوحيدة، التى جمعتها بنائب الرئيس الحالى «مايك بنس»، أقرب إلى بطاقة تعارف.. شخصيتها تفكيرها والمبادئ التى تحكمها.. قدرتها على التعبير عن نفسها ومدى تدفقها وقدرتها على الإقناع.
بدت مختلفة، حيويتها ظاهرة، معبرا عنها بحركة يديها التلقائية، تنقصها خبرات الدولة وهذه مسألة وقت تحتاجه إذا ما قدر لها أن تدخل البيت الأبيض.
تقليديا لا تحظى المناظرات بين نواب المترشحين للرئاسة على اهتمام كبير، أو نسبة متابعة عالية، غير أن هذه المرة شأن كل شيء آخر فى هذه الانتخابات جرت الأمور بصورة مختلفة.
ارتفعت نسب المشاهدة بفوارق كبيرة عن أية مناظرات مماثلة سبقتها.
يصعب الحديث عن كاسب وخاسر فى مناظرة «بنس» و«هاريس»، التى كانت أكثر تحضرا وانضباطا واحتراما من المناظرة الرئاسية بين «ترامب» و«بايدن»، التى سادتها التجاوزات والمقاطعات ووصلات السباب.
كانت مناظرة النائبين المرشحين أقرب إلى أعمال الوكالة بعد إصابة «ترامب» بوباء «كورونا» المستجد.
اتخذت إجراءات مشددة لضمان سلامة المتواجدين فى المكان رفضها «ترامب» حتى لا تكون المناظرتان المتبقيتان شبه معقمتين بلا قدرة على الحركة والتصرف والمقاطعة وإهدار هيبة منافسه.
الملفات التى كان من المفترض أن تطرح على الرئيسين المرشحين أحيلت إلى نائبيهما، شاملة إدارة أزمة «كورونا» التى أصابت أكثر من (750) ألفا، وأماتت أكثر من مئاتى ألف مواطن أمريكى، وأزمة العنصرية المتجذرة، الأمن والقانون، والصراع مع الصين، وتعيين قاضية محافظة فى المحكمة العليا قبل إجراء الانتخابات الرئاسية بأقل من شهر.
كان ذلك حملا ثقيلا على النائبين المرشحين.
كلاهما التزم موقف رئيسه، دافع عنه، ولم يتناقض مع أى أطروحة تنباها.
لم يعهد عن «هاريس»، التى ترشحت فى الانتخابات الرئاسية التمهيدية بالحزب الديمقراطى، أدنى درجة من الإعجاب بمنافسها «بايدن».
استخدمت مهارتها كسيناتور محنكة فى مجلس الشيوخ ومدعية عامة سابقة للنيل منه بقسوة، لكن متطلبات موقعها الجديد استدعت الدفاع عنه.
قد يعنى ذلك مستقبلا أن تحتذى مواقف أخرى، بحكم ميلها إلى يسار الحزب الديمقراطى فيما «بايدن» من المؤسسة التقليدية.
فى أوضاعه الانتخابية الصعبة لم يطق «ترامب» صبرا حتى انتهاء المناظرة.
أصدر أحكامه عليها قبل انتهائها معلنا فوز نائبه «بنس» بها.
كتب تدوينة أضفت على أداء «بنس» صفتى «العظمة» و«الروعة»، فيما وصف أداء منافسته بأنها «ماكينة من الأخطاء».
بالوقت نفسه صعد من حدة انتقاداته مع من يعتبرهم خصومه الرئيسيين: «باراك أوباما» و«هيلارى كلينتون» و«مايك بايدن»، واصفا إياهم بالخيانة.
كان ذلك نوعا من الرد المستعجل على ما قالته «هاريس» وحاولت أن تثبته بالأرقام والوقائع أن «إدارته أفشل إدارة رئاسية فى التاريخ الأمريكى».
أراد بتدخله المستعجل فى مناظرة النائبين المرشحين أن يجذب الأضواء إليه وحده، فهو موضوع الصراع الانتخابى، ومستقبله فى البيت الأبيض معلق على معجزة ما تقلب الحسابات فى اللحظات الأخيرة.