بقلم: عبد الله السناوي
«سيادة الرئيس.. إننا فى هذا الذى رأيناه لهم.. رأينا مقتلهم».
سأله «جمال عبدالناصر»: «أين ذلك؟».
أجاب: «الغرور!».
هكذا عقب الفريق «عبدالمنعم رياض» على ما عرضه اللواء «حسن البدرى»، الذى أسندت
إليه مهمة تقصى أسباب الهزيمة العسكرية فى يونيو، من تسجيلات للجنرالات الإسرائيليين بأصواتهم وصورهم على شاشة فى بيت منشية البكرى.
فى تلك الجلسة التى حضرها قادة عسكريون آخرون قال «رياض» على ما روى الأستاذ «محمد حسنين هيكل»، الذى كان حاضرا ومتابعا:
«إن جولة جديدة من الحرب فى سيناء محتمة لاعتبارين.
الأول: استعادة الأراضى المحتلة فى سيناء بقوة السلاح، وذلك هو نص تكليفه برئاسة أركان حرب القوات المسلحة.. والثانى: استعادة الثقة فى النفس وضمان سلامة المجتمع بالنظر إلى مستقبله، وذلك موضوع نقاش مستفيض أجراه مع عبدالناصر».
بكلمات قاطعة فى معانيها ومباشرة فى رسائلها: «أرجوك يا سيادة الرئيس ألا تقبل عودة سيناء بلا قتال حتى لو عرضوا عليك الانسحاب الكامل منها بلا قيد أو شرط».
«لا مستقبل لشعب يتعرض لاحتلال أراضيه ثم لا ينهض لحمل السلاح مستعدا لدفع فواتير الدم».
«أقول وقد تابعت التاريخ العسكرى بشكل أو آخر: هذا الذى سمعناه فيه درجة من الغرور أكبر بكثير مما تسمح به حقائق القوة.. سوف نستطيع أن نفاجئهم وأن نضربهم دون أن يتصوروا ودون أن يقدروا التقدير الكافى.. لقد لمحت الثغرة التى نستطيع منها أن نتقدم لكى ننال منهم.. وهى ثغرة الغرور، المهم بالنسبة لنا.. هو المفاجأة».
فى أعقاب الهزيمة الفادحة وضع «عبدالناصر» ثقته فى رجلين، الفريق أول «محمد فوزى» قائدا عاما برهان أن شخصيته الحازمة تعيد الانضباط المفقود إلى القوات المسلحة، وتساعد فى إعادة بنائها من تحت الصفر تقريبا على أسس حديثة.. والفريق «عبدالمنعم رياض» رئيسا لهيئة الأركان برهان على كفاءته فى التخطيط العسكرى والقيادة الميدانية للقوات المحاربة.
لم يتسن لـ«رياض» الذى وضع أول خطة عسكرية مصرية لتحرير سيناء أن يشهد ما كرس حياته من أجله، فقد استشهد يوم (9) مارس (1969) على جبهة القتال الأمامية، وكان استشهاده ملهما لمعنى القتال وقضيته.
ثم لم تسمح الانقلابات السياسية التى أعقبت رحيل «عبدالناصر» فى (28) سبتمبر (1970) لـ«فوزى» أن يكون حاضرا فى المشهد عند عبور الجسور بقوة السلاح فى (6) أكتوبر (1973)، كان قد أدخل السجن بتهمة التآمر فى (15) مايو (1971) على قلب نظام الحكم.
كانت تلك محاكمة سياسية، فلم يكن هناك تآمرا كما هو ثابت ومؤكد.
هكذا غاب ذكر الفريق أول «فوزى»، «أبو العسكرية المصرية الحديثة»، فى الأحاديث الرسمية على مدى عقود.
كانت حرب الاستنزاف لثلاث سنوات، التى قادها «فوزى» و«رياض» هى بروفة «حرب أكتوبر».
قدمت سنوات الاستنزاف الفريق «سعد الشاذلى» إلى منصب رئيس الأركان منقولا من قيادة منطقة البحر الأحمر وخليج السويس فى نفس الوقت الذى أوكلت فيه مهام وزارة الحربية إلى الفريق «محمد صادق»، الذى خلفه الفريق «أحمد إسماعيل على» (المشير فيما بعد)، على رغم نفور شخصى بين الاثنين بدأ من الكونغو، حيث كان الشاذلى يقود كتيبة وضعتها مصر تحت علم الأمم المتحدة فى فترة المد الكبرى لحركة التحرر الوطنى فى إفريقيا ـ وفى الوقت نفسه كان «أحمد إسماعيل على» مكلفا بمهمة للتفتيش على القوات المصرية هناك، ووقع احتكاك بين الرجلين أدى إلى جفوة ترسبت آثارها فى النفوس، وفى حين أن الفريق «أحمد إسماعيل» كان يمارس مسئولياته بنظرة عامة واسعة فإن «الشاذلى كان له مقدرة الدخول إلى أدق التفاصيل فى وضع الخطط.
كانت تلك رؤية عن قرب لتعقيدات العلاقة بين أهم عسكريين فى حرب أكتوبر كتبها الأستاذ «هيكل».
بذات القدر حاول أن يلفت الانتباه إلى أنه كان قد تكامل معهما رجل ثالث ـ المشير فيما بعد ـ «عبدالغنى الجمسى» مدير هيئة العمليات، وكانت كفاءته قادرة على إعطاء الخطط حياة خارج الورق، وفى إطار علاقات سمحة مع بقية أفرع القوات المسلحة.
فيما سجل «الشاذلى» و«عبدالغنى الجمسى» وقادة آخرون مثل اللواء «عبدالمنعم واصل» شهاداتهم على التاريخ، فإنه لم يتسن للمشير «أحمد إسماعيل على» أن يكتب روايته للأحداث.
عندما رحل طلبت حرمه من الأستاذ «هيكل» أن ينظر فيما ترك من أوراق، كان تقديره أنها لا توفر أية مقومات لشهادة متماسكة، وغادر المنزل دون أن يأخذ معه شيئا.
رغم ذلك الخلاف المعلن بين القائدين الكبيرين، لم يكن أحد فى مركز القرار يود ذكرهما، أو أن ينسب لهما فضلا.
«إسماعيل» غاب اسمه تماما بعد رحيله عام (1975)، و«الشاذلى» جرى تشويهه بادعاء لم يثبت أبدا أنه انهار عندما حدثت الثغرة فى الأيام الأخيرة للحرب.
نفى «الجمسى»، الذى لم يؤيد وجهة نظر «الشاذلى» فى الثغرة وطريقة مواجهتها، أن يكون قد انهار كما ادعى «السادات».
فى النهاية حصد «الشاذلى» على ما يستحق من رد اعتبار، فيما لم يحصد «إسماعيل» على أى تقدير يستحقه حتى يفسح المجال كاملا لرجل واحد فى المشهد، «بطل الحرب والسلام – أنور السادات» مرة و«صاحب الضربة الجوية – حسنى مبارك» مرة أخرى.
«لماذا لم تذع حتى الآن وثائق سنة ١٩٦٧؟.. ولا أعلنت وثائق حرب أكتوبر؟»
فى خريف (٢٠٠٩) وجد «هيكل» نفسه أمام سؤاله بطريقة لم تخطر له على بال.
فقد ألقى اللورد «ديفيد أوين» وزير الخارجية البريطانى الأسبق مداخلة مطولة أمام دارسين فى القاعة الشرقية بالجامعة الأمريكية مدعوا من «مؤسسة هيكل للصحافة العربية» قال فيها: «إن مصر هزمت فى حرب ١٩٧٣».
كانت تلك صدمة هائلة للصحفيين الشبان، وكادت تفلت مشاعر الغضب عن كل قيد.
لم تكن حرب أكتوبر موضوع محاضرة اللورد «أوين»، ولا كان مقررا استدعاء شهادته عمن هزم وانتصر فيها.
كان موضوع محاضرته: «الاعتلال فى السلطة.. الصحة البدنية والنفسية للزعماء وتأثيراتها على الحكم وصنع القرار».
ما قاله عن حرب أكتوبر خيم على المناخ العام كله فى مصر.
فى مساء اليوم نفسه ـ الأربعاء (١٤) أكتوبر (٢٠٠٩)، والضجة تتفاعل والصخب يتسع، سألت الأستاذ «هيكل«: «عليك أن تتوقع حملة ضارية باعتبارك الرجل الذى دعاه لإلقاء محاضرة فى القاهرة.. ماذا تنتوى أن تقول، أو تفعل؟».
قال: «ولا أى شىء».
«كل ما لدى كتبته بالوثائق والتفاصيل، ولا أحد بوسعه أن يشكك فى موقفى، فضلا عن أنه لا يصح أن أقول لرجل تولى وزارة الخارجية البريطانية بين عامى ١٩٧٧ و١٩٧٩، عاصر المفاوضات المصرية ــ الإسرائيلية وأطل من موقعه على موازين القوى، ماذا يقول أو لا يقول، وأنت تعرف أن النخب الغربية فى أغلبها تذهب مع أوين فيما ذهب إليه».
«ثم لا تنس أن العالم ينظر إلى النتائج السياسية لأى حرب والباقى كله معروف».
بمضى السنين تبدت فى أجواء الكرنفالات المصطنعة خشية إضافية من أن تبهت الذاكرة العامة وتضيع المعانى الكبرى.
كان البطل الحقيقى للحرب هو المواطن المصرى العادى، قاتل بضراوة عن اقتناع وإيمان بأنه يحارب معركة المصير، وأن النصر فيها يفتح صفحة جديدة تعطى أملا فى المستقبل، رابض فى خنادق القتال الأمامية ست سنوات كاملة، وأجل حياته الإنسانية وتلخصت أحلامه فى القتال والثأر، خاض خلالها حرب استنزاف طويلة، وعندما عاد من ساحات القتال وجد مصر أخرى غير تلك التى حارب من أجلها قبل أن يجد نفسه أمام نوع من السلام تتابع الآن مشاهده فى هرولة نظم عربية عديدة للتطبيع مع إسرائيل على حساب أى معنى حارب من أجله ذات يوم.