بقلم: عبد الله السناوي
عند مطلع القرن الجديد لم يخطر ببال وزير الخارجية المصرى «عمرو موسى»، وهو ينتقل إلى الجامعة العربية أمينا عاما جديدا، إنه على موعد مع أزمات وحروب تشبه الأعاصير والبراكين.
بأى نظر موضوعى فإن العشر سنوات، التى قضاها على رأس الجامعة العربية ما بين عامى (2001) و(2011)، كانت عصرا كاملا من الأزمات والحروب والتحديات الوجودية اجتهد بقدر ما تسمح طبيعة مهمته وحدود دوره أن يخفف من وطأتها.
خلال تلك الفترة احتلت دولتان عربيتان، العراق وليبيا، وجرت عمليات عسكرية إسرائيلية واسعة فى الجنوب اللبنانى وقطاع غزة، انفصل جنوب السودان وتأزمت قضية دارفور، تراجعت القضية الفلسطينية، وبدا الأمن القومى العربى فى حالة انكشاف غير مسبوق.
ماذا حدث بالضبط عند مراكز صنع القرار فى العالم العربى المأزوم؟
من يتحمل مسئولية ما جرى من تهديم منهجى للمنطقة العربية بالتفكيك والتقسيم والاحترابات المذهبية والعرقية، أو ساعد عليه؟
لا يمكن أن نتعلم شيئا من تاريخنا المرير إذا لم نقرأ تجاربه بروح النقد والاعتراف بمواضع الأخطاء وأسبابها، ونعمل بقدر ما هو ممكن على تصحيح الأوضاع المختلة، التى سمحت باستباحة العالم العربى على نحو يفوق أشد الكوابيس رعبا.
بقدر ما يتضمنه كتاب «عمرو موسى» الجديد «سنوات الجامعة العربية»، الذى صدر عن دار «الشروق» قبل أيام، من مداخلات مسهبة على الطريقة التى نظر بها للأزمات والحروب، شهاداته وحواراته وانطباعاته، مستندا إلى محاضر جلسات قمة ومداولات وزراء خارجية عند احتدام الأزمات، فإنه أقرب إلى كشافات تضىء بعض ما هو خاف ومعتم فى قصة ما جرى.
كأى شهادة على التاريخ، من موقع المسئولية، فإنها تكتسب قيمتها من اسم صاحبها وقدر دوره فى حركة الحوادث.
قبل أن يستقر على مقعده فى الجامعة العربية هبت أول الأعاصير، أحداث (11) سبتمبر (2001)، التى أفضت تداعياتها إلى «شيطنة العالم الإسلامى» وأحاديث صراع الحضارات.
جرى توظيف الحادث المروع، الذى ضرب برجى مركز التجارة العالمى فى نيويورك، لمقتضى استراتيجية أمريكية جديدة فى الإقليم عملت على إعادة رسم خرائطه السياسية بتقويض العراق كقوة عربية مركزية فى المشرق العربى.
بتعبير «عمرو موسى» كان ذلك انقلابا حادا فى التوجهات والأولويات الأمريكية.
ما مدى فاعلية أدوار الجامعة العربية لمنع احتلال بغداد؟
لماذا أخفقت مهمة الأمين العام فى منعها؟
هذه ليست مشكلته، فهو يتحرك فى حدود ما تتيحه أمامه تناقضات النظم العربية من مساحات حركة ومناورة.
ما مدى تورط دول ونظم عربية بعينها فى التحريض على العدوان واحتلال العراق؟
حاول أن يجيب على ذلك السؤال، صرح وألمح دون أن يزيح الستائر المعتمة من رجل يعرف أكثر مما روى.
تحدث باستفاضة عن الدور الذى لعبه فى إضفاء شرعية عربية على مجلس الحكم الانتقالى، الذى نشأ بأعقاب احتلال العراق.
فى تسويغ ذلك الدور قال إنه قصد منع الفراغ السياسى، وسمح للعراقيين بالمضى قدما فى العملية السياسية.
لم يكن ذلك اختياره، بقدر ما كان ضغطا من دول عربية بعينها وجد فى البيئة العامة داخل الجامعة ما يزكيه.
كان ذلك خطأ سياسيا واستراتيجيا فادحا، حيث أسس للمحاصصات المذهبية، وأضفى نوعا من الشرعية على نظام حكم أنشئ بقوة سلطة الاحتلال.
كما أسس لاحترابات أهلية أخذت من البلد عافيته وأدواره، أحالت الديمقراطية إلى مسخ والحداثة إلى خيال مآتة، وأفسحت المجال واسعا لتدخلات إقليمية فى أدق شئونه.
وفيما يروى فإنه تمكن من تجنيب العراق مغبة نزع الهوية العربية عنه فى الدستور الانتقالى، اعترض وحاور واجتهد بصياغات مقترحة للحفاظ عليها.
ربما يكون مفيدا لنقاش جدى فى الظروف والملابسات أن نراجع محاضر اجتماعات مجلس الحكم الانتقالى للتعرف بدقة على حجم التحريض على عروبة العراق، التى تعنى بالضبط إلغاء هويته ودوره.
كل ما فى هذا الكتاب يستحق التوقف أمامه بالحوار والنقاش ومضاهاة وثائقه وشهاداته بما تكشف تاليا.
العدوان على غزة، حرب «تموز» فى لبنان، حدثان جوهريان يستدعيان تمحيصا جديدا لما قيل إنه كان هناك غطاء عربى فى الأزمتين.
ذلك موضوع مكاشفة أخرى من رجل تابع واستمع وشاهد بنفسه حجم التواطؤ.
يستلفت الانتباه فى كتابه قدر ما أولاه من اهتمام بالقضية الفلسطينية، مشيدا بالزعيم الراحل «جمال عبدالناصر» على عكس ما تولد من انطباعات لاحقت الجزء الأول من سيرته الذاتية عن تجربته فى وزارة الخارجية.
توقف عند حادثة منتدى «دافوس» عام (2009)، التى نالت من شعبيته الكبيرة، بإيضاحات ومعلومات تكشفت تاليا، كأنه يرد اعتبار نفسه حين رفض الانسحاب مع رئيس الوزراء التركى «رجب طيب أردوغان» محتجا على أنه لم يمنح الوقت الكافى أسوة بالرئيس الإسرائيلى «شيمون بيريز»، الذى كان يبرر العدوان على غزة.
أورد شهادة جديدة صدرت أخيرا فى منتصف أغسطس (2020) أكد فيها «أحمد داود أغلو»، الذى تولى لبعض الوقت رئاسة الوزراء فى تركيا، خوف «أردوغان» من ردة الفعل الإسرائيلية حيال لهجته الحادة مع بيريز، وأنه قدم اعتذارا للرئيس الإسرائيلى فى نفس الليلة عبر الأبواب الخلفية عن طريق مستشاره «داود أغلو» نفسه.
كانت تلك فضيحة متكاملة الأركان.
أهم وأخطر ما تضمنه كتابه الجديد تلك المراجعة الشجاعة لأسرار وخفايا ما جرى فى إدارة الأزمة الليبية، وكيف تعرضت الجامعة العربية لما أسماه «المصيدة» و«الخديعة» حين استخدم طلب تقدمت به لمجلس الأمن الدولى لفرض حظر جوى على الأراضى الليبية بذريعة حماية المتظاهرين المدنيين للغزو والاحتلال.
كانت عبارة «اتخاذ جميع التدابير اللازمة»، التى استخدمت فى ذلك الطلب «القنبلة التى فخخ بها قرار مجلس الأمن».
أسس ذلك القرار لتدخل عسكرى مباشر من حلف «الناتو».
من تورط بالضبط فى الوصول إلى ذلك التفويض الملتبس لحلف «الناتو»؟
نشر «عمرو موسى» محاضر نسبت لكل نظام عربى ما قاله بالحرف فى المداولات التى جرت.
كانت تلك مكاشفة جادة تتطلب شروحا وإيضاحات أخرى مما عاينه بنفسه فى حوارات الكواليس لاستبيان كامل الحقائق فيما وصلنا إليه فى جميع أزماتنا المقيمة.