بقلم: عبد الله السناوي
من التالى؟!
السؤال طرح نفسه مجددا فى الحديقة الخلفية للبيت الأبيض أثناء حفل توقيع اتفاقيتى تطبيع بين دولتين عربيتين وإسرائيل.
بنص تصريح الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» فإن «خمسة أو ستة دول أخرى سوف تلحق بالركب».
أراد أن يقول بالقرب من الانتخابات الرئاسية إنه الرجل الذى يجلب السلام إلى الشرق الأوسط دون أى ثمن تدفعه إسرائيل.
إنه «سلام القوة»، أو «السلام مقابل السلام».
بدوافع أخرى اعتبر رئيس الوزراء الإسرائيلى «بنيامين نتانياهو»، المتهم جنائيا بالفساد والاحتيال وتلقى رشى، أن ما يحدث «أكبر نصر تحرزه إسرائيل»، فـ«القوة تجلب السلام» و«تجلب الحلفاء».
هكذا بالحرف، كأننا أمام عرض هزلى لسلام مدعى.
إلى أى حد يمكن أن تمضى رهانات هذا النوع من السلام فى إنكار أى حق للشعب الفلسطينى، حتى أنه لم يأت تقريبا على ذكر قضيته فى احتفالية البيت الأبيض؟!
هذا هو السؤال الأكثر جوهرية عند واحدة من أخطر منعطفات الصراع العربى الإسرائيلى.
بصيغة أخرى، إلى أى حد يمكن أن تستلهم التجربة المصرية فى مقاومة التطبيع، التى أسفرت عن فرض ما يسمى بـ«السلام البارد»؟
الظروف تختلف وتتباين بين دولة وأخرى، غير أن الصمت المطبق لا يبرر، والمضى فى التطبيع على حساب الضحية الفلسطينية لا يقبل.
فى مصر تصدرت مشاهد رفض التطبيع تيارات وأحزاب يصعب أن تلتقى.
تشاركت أجيال ونقابات وجمعيات أهلية، وكل ما يتحرك بالحيوية فى البلد.
كان من أبرز الوجوه التى تصدت لـ«كامب ديفيد« نقيب المحامين الراحل «عبدالعزيز الشوربجي«، إن لم يكن أبرزها على الإطلاق.
بخلفيته السياسية فهو «وفدى» يجافى تجربة «جمال عبدالناصر»، غير أنه فى لحظة «كامب ديفيد» وما تمثله من خطر على الوطنية المصرية قال بما هو نصه فى محضر التحقيقات معه أمام النيابة العامة:
«والله لو استقبلت من أمرى ما استدبرت لكنت من رجاله وحاربت خلفه».
بمضى الوقت استقرت حقائق المشروع المضاد.
تفكيك الاقتصاد الوطنى باسم الانفتاح الاقتصادى أسس لطبقة جديدة وظيفتها مساندة نوع معين من السلام.
وتفكيك نظرية الأمن القومى باسم السلام مع إسرائيل أسس لتراجع المكانة المصرية فى محيطها وقارتها وعالمها الثالث.
بتصدع المشروع الوطنى لم يكن ممكنًا بناء اقتصاد قوى، رغم وعود الرخاء، ولا تأسيس ديمقراطية حقيقية تقوم على التعددية والتنافس الحزبى وفق أصول مدنية الدولة والاحتكام إلى القواعد الدستورية الحديثة.
عند زيارة القدس تناقضت تصرفات «السادات« مع ما كان يعتقد فيه وزير الخارجية «اسماعيل فهمى».
لم يكن بوسعه أن يتغاضى عن «الأسلوب« و«المنهج».. ولا أن يغمض عينه عن «النتائج الوخيمة» المتوقعة.. فاستقال.
رغم أن الدكتور «بطرس غالى»، الذى صعد إلى قمة جهاز الخارجية المصرية فى أعقاب استقالتى وزيرها «اسماعيل فهمى» ووزير الدولة للشئون الخارجية «محمد رياض»، كان مقتنعًا بما أقدم عليه «السادات»، إلا أنه وجد نفسه عضوًا فيمن كان يسميهم بـ«عصابة الخارجية»، أو «الميكانيكية» ــ نسبة إلى التعبير الإنجليزى الشهير «الميكانيزم» أو «الآلية»، الذى كان يستخدم وقتها على نطاق واسع فى أوساط المثقفين والدبلوماسيين!
كان ذلك التعبير الساخر انعكاسا لمدى تبرم «السادات» من المقاومة الدبلوماسية للسياسات والتحالفات الجديدة.
هكذا أهدرت النتائج العسكرية لحرب أكتوبر بمقولتى: «٧٠٪ من الصراع مع إسرائيل نفسى».. و«٩٩٪ من أوراق اللعبة فى يد الولايات المتحدة».
كانت النتائج وخيمة على الدور الإقليمى المصرى بالانخراط فى الصلح المنفرد مع إسرائيل والخروج من الصراع العربى ــ الإسرائيلى.
عندما ذهب «السادات» عام (1977) إلى القدس مانع البابا «شنودة الثالث» فى الذهاب معه، ثم حسم أمره سريعا فى رفض اتفاقيتى «كامب ديفيد» (1978)، وما يترتب عليها.
كانت حسابات البابا ــ السياسية قبل الدينية ــ أن مجاراة رئاسة الدولة فى سياساتها المستجدة قد يدفع قطاعات واسعة من الراى العام العربى، فى مصر بالخصوص، إلى اعتبار أقباط مصر خونة الأمة العربية.
عندما كان عليه أن يختار بين رئاسة الدولة والرأى العام فيها، اختار بلا تردد أن يصطدم مع «السادات»، مدركا أنه إذا ما جاراه فى التطبيع فسوف تلحق بالأقباط أضرارا أفدح لا يمكن تداركها وشروخا لا يمكن ترميمها فى النسيج الوطنى.
ذات حوار بيننا رفع رأسه معتزا بدوره وهو يقول: «أنا آخر البابوات العظام الذين قالوا لا للمحتل الأجنبى».
فى التفاته رجل لديه حس استثنائى بالتاريخ أغلق جهاز التسجيل ذات حوار آخر.
سألنى: «هل تعتقد أن كل الدول العربية والإسلامية سوف تعترف بإسرائيل؟».
أجبته على الفور: «لا».
قال: «إذن لن أذهب إلى القدس أبدا».
كانت تلك درجة أكثر تشددا فى رفض التطبيع مع إسرائيل، أو زيارتها، أو السماح للأقباط بالحج إلى القدس.
فى البداية قال: «لن أزور القدس إلا مع شيخ الأزهر».
ثم فكر فى احتمال أن يزور شيخ الأزهر المدينة المقدسة، وأن يكون الرأى العام العربى غاضبا ومعترضا.
رأى أن الأوفق ألا يزورها حتى لو ذهب إليها شيخ الأزهر.
اكسب ذلك الموقف البابا «شنودة» شعبية كبيرة وأطلق عليه عند منتصف تسعينيات القرن الماضى صفة «البابا العربى».
لم يجر ذلك فى انعزال عن الحركة العامة للمجتمع، حيث توالت المواجهات الشعبية مع أية نزعة تطبيع.
تصدر المثقفون المشاهد الغاضبة فى معرض القاهرة الدولى للكتاب بالتظاهر أمام الجناح الإسرائيلى، حتى اضطر إلى إغلاق أبوابه.
تبارت النقابات العمالية والمهنية فى تحريم أى تطبيع على أعضائها.
ونشأت «اللجنة الوطنية للدفاع عن الثقافة القومية» لرفع منسوب الوعى العام بخطورة التطبيع على مستقبل البلد.
امتدت روح الرفض إلى داخل أجهزة الدولة نفسها.
باستثناء أعداد محدودة من رجال الأعمال، اعتادوا زيارة إسرائيل سرا، أو بعض الوزارات كوزارة الزراعة على عهد «يوسف والى»، كاد رفض التطبيع أن يكون شاملا.
فى المشهد المصرى تبدت مأساة جيل أرجأ طموحاته وحياته إلى ما بعد انتهاء الحرب، التى جرت وقائعها عام (1973)، غير أنه عندما عاد من ميادين القتال، وجد أن ما قاتل من أجله قد تبدد، وأن عليه دفع ثمن سياسات الانفتاح الاقتصادى التى دشنت عام (١٩٧٤) من مستقبله الاجتماعى والإنسانى.
ثم أن يرى بعد سنوات قليلة من انتهاء الحرب سياسات التطبيع مع العدو الذى انتظر طويلا فى الخنادق أن يواجهه.
لم تعد إسرائيل عدونا التاريخى.
«هذا كذب.. أنا لا أعرف من أنتم، ولا من أين أتيتم.. إن ما أعرفه جيدا أن هذا البيت بيتى، وأن واجهته خمسون مترا بالتمام، وإذا كنت لم أفكر فى إعادة قياسه منذ زمن بعيد، فذلك لثقتى بأن الأرض لا يمكن أن تضمر بفعل الزمن».
كانت تلك نبوءة مبكرة فى منتصف سبعينيات القرن الماضى تضمنتها مسرحية «محمود دياب» «الغرباء لا يشربون القهوة»، عن حجم ما سوف يحدث من تجريف لأى معانٍ حاربت من أجلها مصر.
فى نبوءة ثانية استبق التطبيع مع إسرائيل بإعلان استحالته فى مسرحية «أرض لا تنبت الزهور».
«إن الحب لا يقحم على قلوب الناس بزواج ملك من ملكة.. خذها حكمة من الزباء ولا تنسها أن أرضا ارتوت بالدم لا تنبت زهرة حب».
هذا رهان على كسر شوكة التطبيع بالمجان والسلام بالقوة.