بقلم: عبد الله السناوي
أخطر ما جرى فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية اهتزاز فكرة المؤسسة، صلب النظام السياسى وموطن قوته، تحت وطأة الانقسامات العميقة.
شاعت نظرية المؤامرة أثناء فرز أوراق الاقتراع ونسبت أدوارا غامضة لـ«الدولة العميقة» فى صعود المرشح الديمقراطى «جو بايدن» على حساب الرئيس الحالى «دونالد ترامب».
مما قيل وتردد منسوبا إلى «ترامب»: «نظامنا فاسد والانتخابات مزورة».
الكلام ينزع الشرعية عن الانتخابات ويعمق الانقسام السياسى والعرقى فى بنية المجتمع، ويثير شكوكا غير مسبوقة فى قدرة أكبر قوة عظمى على إدارة انتخابات حرة ونزيهة وذات صدقية.
قوة أمريكا لا تلخصها عضلاتها العسكرية ولا قدراتها الاقتصادية بقدر صلابة نظامها الفيدرالى، الذى تأسس عام (1789)، وهو العام نفسه الذى انتخب فيه الرئيس الأول «جورج واشنطن».
باستثناء فترة الحرب الأهلية ستينيات القرن التاسع عشر بدا ذلك النظام قويا وراسخا، يراكم قوته ويعالج أزماته وفق قواعد دستورية شبه مقدسة تضمن عدم تغول سلطة على السلطات الأخرى، أو تجاوز المركز الفيدرالى للصلاحيات المخولة للولايات.
لا يتحمل «ترامب» وحده مسئولية الأجواء المسمومة فى الانتخابات الرئاسية بالادعاء أنها قد زورت وسرقت، وأن نتائجها قد حرفت بالتلاعب فى بطاقات الانتخاب المرسلة بالبريد، فقد شاركه الموقف نفسه قيادات جمهورية بارزة وقاعدة واسعة من الناخبين المتحمسين.
هكذا تبدت بوادر فوضى وصدامات شوارع، قد لا تكون كبيرة حتى الآن، لكنها منذرة.
إذا ما جرى تصور أن الانتخابات الأمريكية (2020) محض تنافس بين رجلين ومنهجين فإننا نغض الطرف عن الحقائق المعلنة والغاطسة فى المجتمع الأمريكى نفسه، انقساماته وأزماته، التى عبرت عن نفسها فى ضيق فوارق التصويت بأغلب الولايات الأمريكية.
من لحظة إلى أخرى جرى تبادل المراكز بين المرشحين الرئيسيين وتغيرت احتمالات وسيناريوهات الفوز والخسارة.
فارقت حقائق التصويت استطلاعات الرأى العام على نحو دعا إلى السخرية منها، بعدما عجزت فى دورتين رئاسيتين متتاليتين على توقع ما قد يحدث.
فى انتخابات (2016) رجحت كفة «هيلارى كلينتون» وزيرة الخارجية السابقة، مؤكدة أنها سوف تكتسح المرشح الجمهورى «ترامب»، غير أنه هو الذى كسب السباق.
وفى المرة الثانية، أكدت أن «بايدن» سوف يكتسح الانتخابات، وأن «موجة زرقاء» سوف تدفع الديمقراطيين إلى السيطرة الكاملة على مقاعد مجلسى الكونجرس، وهو ما لم يحدث على الصورة التى توقعتها.
لا يمكن أن يعزى إخفاق استطلاعات الرأى العام إلى المؤسسات التى تنظمها، أو مستويات كفاءة من يشرفون عليها، فقد تراكمت خبراتها على مدى عقود طويلة، ونجحت فى محطات سابقة على التوقع بدقة شبه متناهية.
إنها أزمة مجتمعية تستحق البحث والتقصى فى الأسباب الكامنة لإخفاق استطلاعات الرأى العام على التوقع بدقة.
على خلفية استطلاعات الرأى العام المتواترة، التى جزمت باكتساح «بايدن» تبنى «ترامب» استراتيجية استباقية شككت فى الانتخابات قبل أن تبدأ.
صب اعتراضه على التصويت بالبريد، الذى دعا الديمقراطيون أنصارهم إلى اتباعه لاتقاء الإصابة بعدوى «كورونا» فى زحام لجان الانتخابات.
كان ذلك متسقا مع الخطاب الانتخابى للديمقراطيين، الذى ركز على سوء إدارة «ترامب» لأزمة «كورونا»، فيما دعا هو أنصاره للتصويت المباشر فى لجان الاقتراع للتقليل من شأن مسئوليته عن تفشى الجائحة.
لم تكن إثارة الشكوك مجانية، فقد استهدفت منذ البداية مصادرة أية نتائج متوقعة بالملاحقات القضائية حتى الوصول إلى المحكمة العليا، التى يسيطر عليها الجمهوريون لعلها تحسم على غير ما تجرى به صناديق الاقتراع.
هكذا قد تجد المحكمة العليا، أحد الأركان الرئيسية فى النظام الفيدرالى الأمريكى، نفسها أمام اختبار قاس.
إذا حكمت لـ«ترامب» فإنه مطعون عليها بـ«التسييس».
لا يمكن القياس على تجربة عام (2000) عندما حسمت المحكمة العليا الصراع الانتخابى بين المرشحين الديمقراطى «آل جور» والجمهورى «جورج دبليو بوش» لصالح الثانى بفارق عدة مئات من الأصوات فى ولاية فلوريدا.
بتعبير «آل جور» نفسه فإن الوضع هذه المرة يختلف.
إذا ما اتسعت دوائر التشكيك فإنها قد تجرف فى طريقها أى تقاليد منسوبة للمؤسسة الأمريكية وتفتح كل السيناريوهات الخطرة على المستقبل.
ماذا قد يحدث لو رفض «ترامب» الاعتراف بالهزيمة وتسليم السلطة وفق المواعيد والقواعد الدستورية؟
أن يعترف أو لا يعترف هذه ليست المشكلة، إلا أنها تشرخ فى الشرعية.
أن يرفض مغادرة البيت الأبيض، هذه ليست أيضا مشكلة، فالرئيس المنتخب يستطيع بموجب صلاحياته الدستورية اتخاذ ما يلزم من إجراءات لممارسة السلطة.
المشكلة الحقيقية فى قدر ما يصيب المؤسسة الأمريكية من عطب وتراجع مستويات الثقة العامة فيها.
إلى أى حد يستطيع الرئيس الجديد أن يعيد شيئا من التماسك إلى المؤسسة الأمريكية، وشيئا آخر من ترميم الانقسامات الحادة السياسية والطبقية والعرقية فى بنية المجتمع؟
فى آخر رئاستين، «باراك أوباما» و«دونالد ترامب» طرح سؤال المؤسسة نفسه على السجال العام بطريقتين مختلفتين.
فى حالة «أوباما»، شاعت رهانات على تغيير جوهرى فى السياسات الأمريكية بمنطقة الشرق الأوسط بمجرد صعوده إلى البيت الأبيض كأول رئيس من أصول إفريقية.
قيل وقتها، إنه يمكنه بفوائض شعبيته وكاريزميته أن يتحدى المؤسسة.
وقيل وقتها إن نظرية المؤسسة استهلكت زمانها ولم تعد تصلح لتفسير الظواهر الجديدة، أخفقت تلك الرهانات بقسوة.
وفى حالة «ترامب»، طرح السؤال نفسه عام (2016) بصيغة أخرى: إلى أى حد يمكن للمؤسسة الأمريكية أن تحتمل الخطاب الشعبوى للقادم الجديد، الذى قد يخرج عما هو معتاد فى إدارة البيت الأبيض؟
انتهت التجربة بما يشبه التصدع فى المؤسسة وشيوع نظريات المؤامرة، كأن القوة العظمى الأولى فى العالم باتت دولة من العالم الثالث تغيب عنها الأصول والقواعد الديمقراطية وتفسر أزماتها بالأهواء المتغيرة.
إذا ما صعد «بايدن» إلى الرئاسة الأمريكية، كما بات واضحا، فإن سؤال المؤسسة يطرح نفسه بصيغة ثالثة، فهو ابنها بأى معنى تقليدى، عضوا فى مجلس الشيوخ لعقود طويلة، ورئيسا للجنة الشئون الخارجية، ونائبا للرئيس لفترتين متتاليتين.
بحكم صلاته وعلاقاته وأفكاره فإنه سوف يعمل على مد الجسور مع الجمهوريين وترميم ما يستطيع ترميمه، لكن المشكلة أكبر منه وقد تستغرق وقتا طويلا.