بقلم: عبد الله السناوي
لم تكن هناك أى مفاجآت فى خطة الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب»، المعروفة إعلاميا بـ«صفقة القرن»، عند إعلانها رسميا تحت أضواء الكاميرات.
كل ما أفصح عنه هو نفسه ما تسرب على مدى شهور طويلة فى الصحافة الإسرائيلية والأمريكية كبالونات اختبار لمدى جاهزية الفلسطينيين لتقبل ما قد يطرح عليهم عند المذبح الأخير.
بلغة المسرح بدت الأجواء الاحتفالية فى البيت الأبيض أقرب إلى «مونودراما» هزلية، ممثل واحد يسرد الأحداث من وجهة نظره، يمدح نفسه باعتباره صانعا للتاريخ والسلام، ويتلقى تصفيقا متتاليا من الشخصيات التى حشدت فى قاعة الاحتفال وتتبنى المواقف نفسها.
كان بجواره على منصة الاحتفال رئيس الوزراء الإسرائيلى «بنيامين نتنياهو»، كلاهما كال المديح للآخر، فـ«ترامب» صنع لإسرائيل ما لم يصنعه رئيس آخر، و«نتنياهو» رجل سلام خطا خطوة جبارة بالموافقة على صفقة تتبنى بالكامل وجهة نظر اليمين الإسرائيلى الذى يمثله!
انتحر المنطق فى احتفالية البيت الأبيض وجرى الاستخفاف بأى حقوق فلسطينية وعربية إلى حدود غير مسبوقة.
لم يكن هناك سلام ولا خطة سلام ولا أى صلة بأى سلام منصوص عليه فى القوانين والمرجعيات الدولية، ولا كان هناك شريك فلسطينى، ولا أى اعتبار للطرف الآخر فى الصفقة المفترضة.
كان الغياب الفلسطينى حكما مسبقا بالإعدام على «صفقة القرن».
فى ذلك الحفل بدا الرئيس الأمريكى، كما لو أنه فى محفل انتخابى، أراد أن يضفى على نفسه صفة «الرئيس القوى» القادر على اقتحام الأزمات الشائكة رغم أزمته الداخلية التى استدعت إجراءات عزله على خلفية اتهامه باستخدام منصبه لمقتضى مصالح شخصية وانتخابية.
ألقت معركة عزل «ترامب» بظلالها على احتفالية البيت الأبيض، ليس لأنه سوف يعزل فعلا، فهذا مستبعد بالنظر إلى الأغلبية الجمهورية فى مجلس الشيوخ، بقدر مدى تأثير المحاكمة على فرصه الانتخابية لتجديد ولايته فى الخريف المقبل.
لأهداف انتخابية جرى استدعاء «صفقة القرن» إلى العلن، رغم عمق المعارضة الفلسطينية الجماعية للانخراط فيها، واعتبار القبول بها خيانة وطنية ــ وفق تعبير الرئيس الفلسطينى «محمود عباس».
حاول «ترامب» باغتيال الجنرال الإيرانى «قاسم سليمانى» تأكيد صورة «الرئيس القوى»، غير أن التداعيات أفسدتها وجلبت اعتراضات عليها من داخل حزبه نفسه، لكنه استخدمها مجددا فى سياق استعراض خدماته لإسرائيل، التى تضمنت نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وإلغاء الاتفاق النووى الإيرانى والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان السورى المحتل.
بالنسبة لرئيس مأزوم معاركه فى الداخل مفتوحة بدت هناك حاجة ملحة لشىء ما دراماتيكى فى معادلات الخارج يضفى عليه صفات القوة والقدرة على التصرف واتخاذ القرارات الصعبة وادعاء «صناعة السلام»!
لم تكن هناك غير القضية الفلسطينية بطنا رخوة يضرب عليها دون توقع ردات فعل تضر بالمصالح الأمريكية فى العالم العربى.
كان ذلك استخفافا يتجاوز كل ما جرى قبله من تنكيل بأى حقوق فلسطينية أو عربية.
استخفاف إلى حد أنه يكاد لا يرى أن هناك بشرا يستحقون الحياة فى فلسطين، وأن هناك عالما عربيا خاض حروب متعاقبة لاكتساب حقه فى أوطان مستقلة، من بينها حرب (1948)، التى قال «ترامب» أنه كان يتوجب على العرب أن يعترفوا بإسرائيل الوليدة لا أن يهاجموها!
خطة «ترامب» تقع فى (80) صفحة، موسعة وتفصيلية، الاطلاع التفصيلى عليها ربما يشير إلى الحجم المروع لذلك الاستخفاف.
فيما يتعلق بما يحصده الإسرائيليون، فهو حاسم ومحدد وقاطع وإنفاذه عاجل، فالقدس غير المقسمة عاصمة أبدية لإِسرائيل، ومستوطنات الضفة الغربية تضم للدولة العبرية وغور الأردن يوضع تحت سيادتها.. وهكذا.
وفيما يتعلق بما قد يحصل عليه الفلسطينيون، فالكلام عائم ومشروط بتنازلات محددة مثل نزع سلاح غزة والاعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية وإنفاذه ممرحل على أربع سنوات والوعود الاقتصادية التى تدفع أغلب استحقاقاتها الدول الخليجية معلقة على تنفيذ الإملاءات.
الخطة الإسرائيلية، التى أعلنها الرئيس الأمريكى ووضع عليها توقيعه، تستهدف حكما ذاتيا فلسطينيا محدودا يطلق عليه اسم دولة فى حدود (70%) من الضفة الغربية يرتبط بغزة فيما يشبه الكانتونات الممزقة، بلا اتصال جغرافى ولا سلاح ولا سيادة ولا قرار أمنى.
إنه سلام الإذعان والقوة وتجريد الفلسطينيين من أى حقوق منصوص عليها فى القوانين والقرارات الدولية، ومن بينها حق العودة.
وفق خطة «ترامب» فالدولة الفلسطينية افتراضية، مسخ دولة.
كل شىء لإسرائيل ولا شىء للفلسطينيين.
من مفارقات ما حدث فى البيت الأبيض أن رجلا بمواصفات «نتنياهو» يتحدث عن «السلام» وهو يقصد «الاستسلام»، وعن «الطريق الواقعى لسلام مستدام» وهو يقصد الرؤية الصهيونية بكامل حذافيرها، وعن «اللحظة التاريخية» وهو يقصد «تصفية القضية الفلسطينية».
كان ذلك انتهاكا مفرطا لحرمة الألفاظ والمعانى.
مساء نفس اليوم كشف «نتنياهو» عن توجهه لاستصدار تشريع جديد خلال ساعات يفرض السيادة الإسرائيلية على غور الأردن ويضم الكتلة الاستيطانية الأكبر فى الضفة الغربية دون انتظار لتفاوض تحدث عنه «ترامب» فى خطابه الاستعراضى.
كان إعلان الصفقة، قبيل الانتخابات الإسرائيلية بأسابيع قليلة، داعيا للتساؤل داخل إسرائيل نفسها عن مغزى التوقيت، فـ«السماء لن تنطبق على الأرض» إذا ما تأجل إعلانها إلى ما بعد الانتخابات فى مارس المقبل حسب تعبير «افيجادور ليبرمان» وزير الخارجية والدفاع سابقا.
بدا ذلك دعما سياسيا لـ«نتنياهو»، المهدد بالسجن على خلفية اتهامه فى قضايا احتيال وفساد.
فى احتفالية واشنطن وقف «نتنياهو» تحت الكاميرات بجوار «ترامب» والسعادة تغمر وجهه، كأنه تلقى طوق إنقاذ قبل الغرق فى بحر الظلمات.
كانت دعوة «بينى جانتس» زعيم لائحة «ازرق وأبيض» المنافس الرئيسى للائحة «الليكود» فى الانتخابات الإسرائيلية إلى البيت الأبيض نوعا من التغطية على ذلك الدعم الانتخابى لـ«نتنياهو».
اجتمع بهما «ترامب» بالتعاقب، لكن الحظوة نالها «نتنياهو» وحده.
لم يكن هناك فارق يعتد به بين المتنافسين الإسرائيليين، فكلاهما يؤيد الصفقة ويتحمس لها ويرى أنه الأجدر بإنفاذها على الأرض.
فى التقدير النسبى لدوافع إعلان الخطة الآن فإن اعتبارات «ترامب» الانتخابية تأتى أولا، تليها اعتبارات «نتنياهو» حليفه الأوثق دون وضع الفلسطينيين والعرب فى أى اعتبار.
هناك إجماع فلسطينى على رفض صفقة «ترامب»، وصفت بـ«صفعة القرن» و«عار القرن» و«احتيال القرن»، وترددت بصورة غير مسبوقة دعوات التحلل من اتفاقية «أوسلو» التى أنشئت على أساسها السلطة الفلسطينية.
فكرة التحلل من «أوسلو» ليست جديدة، طرحت على الدوام فى كواليس السياسة الفلسطينية.
لوح «محمود عباس» بالتخلى عن «أوسلو» فى خطاب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، لكن بدا أن هناك من يعارض هذه الخطوة داخل حركة «فتح»، التى يخشى بعض أقطابها أن يعقب حل السلطة الفلسطينية انقلاب داخلى إسرائيلى حتى تستمر بوجوه جديدة.
ذلك يفسر ما دعا إليه «عباس» فى الخطاب، الذى ألقاه بذات مساء احتفالية واشنطن، بالبدء فى اتخاذ إجراءات تغيير الدور الوظيفى للسلطة الفلسطينية.
المقصود التوقف عن التنسيق الأمنى والامتناع عن لعب أى دور وظيفى يكرس الاحتلال ويخدم أغراضه بأقل التكاليف الإسرائيلية.
بأى مراجعة للأدبيات السياسية الفلسطينية والعربية بعد اتفاقية «أوسلو» فقد كان ذلك الدور جوهر الانتقادات التى وجهت إليها، عندما يتبناها الرجل الذى يوصف بـ«عراب أوسلو» فالمعنى أنه لم يتبقَ منها سوى خرق سياسية ينبغى التخلص منها فى أقرب سلة مهملات.
هذا هو الرد الوحيد على صفقة «ترامب» مشفوعا بإنهاء الانقسام الفلسطينى وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية والعودة مجددا إلى انتفاضات الغضب داخل الأراضى المحتلة.