بقلم - عبد الله السناوي
«المهمة أنجزت».
كان ذلك التصريح، الذى أطلقه الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» فور انتهاء الضربة العسكرية بمشاركة فرنسية وبريطانية لمواقع سورية، داعيا لطرح تساؤلات جوهرية:
أية مهمة؟.. ولأية أهداف؟.. وكيف أنجزت؟.. وماذا يترتب عليها من نتائج وتداعيات؟
باليقين لم يترتب على الضربة الثلاثية أى تغيير فى موازين القوى السياسية والعسكرية.
هذه هزيمة بذاتها.
كما أنها كشفت غياب أية استراتيجية غربية على شىء من التماسك فى إدارة الأزمة السورية.
هذه حالة انكشاف.
بالتعريف فإن الجهاز العصبى لأية دولة هو مركز صنع القرار السياسى فيها ومدى قدرته على الاستجابة للتحديات والمخاطر بأكبر قدر ممكن من وضوح الأهداف والاستراتيجيات.
إذا اختل الجهاز العصبى ارتبكت السياسات والمواقف على نحو يقوض أية هيبة ويستدعى كل رثاء.
وهذه حالة إدارة «ترامب».
تفلت فى الأعصاب وفوضى فى التصريحات داخل مركز صنع القرار على نحو غير مسبوق فى التاريخ الأمريكى.
على خلفية اتهام لا يوجد دليل عليه للنظام السورى باستخدام غاز أعصاب محرم دوليا فى مدينة «دوما» بالغوطة الشرقية حمل «ترامب» موسكو المسئولية وصعد من نبرة المواجهة العسكرية معها: «استعدى يا روسيا الصواريخ قادمة، وستكون جميلة وحديثة وذكية».
كانت تلك التدوينة القصيرة أقرب إلى إعلان حرب على روسيا قبل استبيان الحقيقة من تقرير مبعوثى منظمة «حظر الأسلحة الكيماوية» إلى موقع الحدث.
لم يكن أحد فى العالم مستعد أن يتحمل مخاطرة الانجراف إلى مواجهة عسكرية قد تفلت من أية قيود بين أكبر قوتين عسكريتين فى العالم.
فى تدوينة قصيرة أخرى كتب: «علاقاتنا مع روسيا الآن أسوأ من أى وقت مضى بما فى أثناء الحرب الباردة دون أن يكون هناك مبرر».
حجم التناقض يستعصى على الفهم ويحتاج إلى مختصين فى علم النفس لا متخصصين فى التحليل السياسى.
كيف وصلت العلاقات الأمريكية الروسية إلى هذه الدرجة من السوء؟.. إذا لم يكن هناك مبرر فمن يتحمل المسئولية؟
بتعبير الرئيس الأمريكى الأسبق «جيمى كارتر»: «على واشنطن ألا تبالغ فى تحديها لموسكو».
لم يكن ذلك رأى «كارتر» وحده، فجنرالات «البنتاجون» حاولوا بقدر ما هو ممكن «فرملة» جموح رئيس عشوائى خشية صدام قد تندفع إليه الحوادث بغير تبصر ـ على ما كشفت تسريبات صحيفة «وول ستريت جورنال» عن اجتماع مجلس الأمن القومى الأمريكى.
كان مثيرا دعوة ذلك المجلس للاجتماع بعد تصريحات الرئيس لا قبلها للبحث فى البدائل العسكرية والسياسية الممكنة.
عندما أطلق تصريحاته وتدويناته لم تكن لدية أية إجابات عن أسئلة أساسية: ما حجم الضربات الصاروخية؟.. وما الأهداف المقصودة سياسيا وما يترتب عليها؟
بدا الجهاز العصبى لمركز صناعة القرار الأمريكى على حال رئيسه، الذى يعانى من تدهور فى بنية إدارته بأثر الإقالات والاستقالات المتتالية والفضائح والتسريبات والتحقيقات التى تحاصره، حتى إنه وصمها بـ«الفساد» فى تدوينة واحدة مع اتهام النظام السورى باستخدام أسلحة كيماوية.
ما علاقة تلك التحقيقات، التى وصلت إلى مرحلة متقدمة، مع الأزمة السورية وخطط توجيه ضربات صاروخية؟
ما دخل مداهمة الـ«إف بى آى» بإذن قضائى لمكتب محاميه بحثا عن أوراق ومستندات قد تدينه بأزمات الإقليم المتفاقمة؟
وما الصلة التى تجمع الرئيس السورى «بشار الأسد» مع المحقق الخاص «روبرت ميلر» فى التدخل الروسى المرجح بالانتخابات الأمريكية، التى صعدت به إلى البيت الأبيض؟
إنه «ترامب» ولعبة خلط الأوراق.
قبل الأزمة مباشرة أعلن دون استشارة أحد، أو رجوع لأية جهة سياسية وعسكرية واستخباراتية، أن القوات الأمريكية سوف تنسحب من سوريا فى وقت قريب، لكنه تحت الضغوط تراجع عما أعلنه وأحال مشروع الانسحاب إلى وقت آخر لم يحدده.
من مشروع الانسحاب الكامل إلى مشروع التدخل الواسع يبدو السؤال مشروعا: على أى أساس استراتيجى يبنى «ترامب» مواقفه ويصدر تصريحاته ويكتب تدويناته القصيرة على شبكة التواصل الاجتماعى؟
نحن أمام فصل سياسى مقتطع من مسرح «اللا معقول» لخصته تدوينة تقول نصا: «لم أقل قط متى نشن هجوما على سوريا.. قد يكون فى وقت قريب جدا أو غير قريب على الإطلاق».
ماذا كان بوسع أى مراقب أن يفهم من هذا المستوى فى التخبط؟!
ما جرى من هجوم ثلاثى على سوريا جاء أقل مما كانت توحى به تصريحاته وتدويناته.
كانت اعتبارات حفظ ماء وجهه وراء ضربة رمزية ومحدودة لا تقع فى محظور الاقتراب من أية مواقع روسية فيفلت الموقف المتأزم من عقاله.
لم يكن البحث عن حقيقة ما جرى فى «دوما» الموضوع الحقيقى للأزمة بقدر ما هو التنافس على النفوذ الدولى والضيق المتزايد من اتساع الدور الروسى فى الشرق الأوسط.
بأى تقدير موضوعى يصعب تصديق أن يكون النظام السورى قد أقدم على استخدام أسلحة كيماوية فى «دوما»، فقد حسمت المعركة عسكريا وجرى الاتفاق النهائى من البوابة الروسية على إخلاء المدينة من المسلحين.
وبأى تقدير موضوعى آخر فإن هناك شبهات حول تدخل ما لحرمان النظام السورى من جنى ثمار كسب معركة الغوطة.
دائرة الشبهات تضم بريطانيا، التى كانت وجهت لموسكو فى وقت سابق اتهاما لا دليل عليه بمحاولة تسميم العميل الروسى المزدوج «سيرجى سكريبال» وابنته بغاز أعصاب، وجرى تبادل طرد دبلوماسيين من الجانبين، بالفعل ورد الفعل، شمل دولا غربية عديدة.
هذه بيئة دولية مرشحة باحتقاناتها لأى انفلات سلاح مفاجئ على مستوى لا يمكن تدارك أخطاره.
باعتراف وزارة الدفاع الفرنسية فإنها أبلغت موسكو بالضربة الثلاثية قبل تحرك الصواريخ والطائرات.
ربما أرادت فرنسا أن تلعب بطريقة أخرى، تشارك فى العدوان المسلح وتفتح بالوقت نفسه قناة حوار مع الكرملين بحثا عن تسوية سياسية للأزمة السورية وفق «صيغة جينيف».
من الصعب ـ الآن ـ الحديث عن تسوية، فالضربة الثلاثية تكاد أن تكون قوضتها إلى أجل غير منظور، وأضعفت التحالف الغربى، والذين مولوها بدواعى الانتقام.
عندما تصف المعارضة السورية فى استنبول الضربة بالمهزلة، فالمعنى أن ردات الفعل سلبية للغاية داخل المعسكر الواحد.
وعندما تتحدث عن ضرورة إنشاء هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحية تشارك فيها، فالمعنى أنها لا تدرك أن اللعبة انتهت.
لا موازين القوى تسمح ولا الحلفاء الغربيين لديهم استراتيجية متماسكة.
على الجانب الآخر من الأزمة بدا الجهاز العصبى فى الكرملين على قدر كبير من الثبات الانفعالى، حيث لم يتورط فى أى تصعيد على مستوى رئاسى، ولا انخرط فيما تسمى بـ«دبلوماسية التدوينات القصيرة»، حتى يفسح لنفسه مساحات مناورة بوقت أزمة حرجة.
قبل إطلاق صاروخ واحد على مواقع سورية كانت الهزيمة قد أطلت برأسها على التحالف الغربى.
التصعيد العشوائى هزيمة مؤكدة.
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع