بقلم: عبد الله السناوي
«بروفيسور.. سندافع عن الحرية التى علّمتها جيدا، وسنرفع العلمانية عاليا. لن نتخلى عن الرسوم الكاريكاتورية والرسومات حتى لو تراجع الآخرون».
كانت تلك عبارة ملغمة للرئيس الفرنسى «إيمانويل ماكرون» فى حفل تأبين مدرس التاريخ «صامويل باتى»، الذى لقى حتفه مذبوحا على خلفية درس ألقاه عن حرية التعبير مستشهدا بالرسوم المسيئة للنبى الأكرم، التى نشرتها مجلة «شارلى إيبدو».
باليقين فإن قطع رأس المدرس الفرنسى أساء بقسوة إلى سمعة الإسلام والمسلمين، وبدت تداعياته وخيمة على ملايين العرب والمسلمين، الذين يعيشون فى المجتمعات الأوروبية، كما لو كانوا إرهابيين مفترضين.
عندما توالت عمليات الطعن، وبعضها بقطع الرأس، بالقرب من كنيسة «نوتردام» فى مدينة نيس اكتسبت الأزمة طابعا فوضويا وكاشفا بالوقت نفسه لتعقيداتها.
أول التعقيدات، التناقض بين ما هو مشروع وطبيعى من غضب على السخرية الكاريكاتورية باعتبارها عدوانا على مشاعر أكثر من مليار ونصف المليار مسلم، وبين التفلت بالذبح على أصحاب ديانات أخرى تواجدوا بالمصادفة أمام كنيسة كاثوليكية لأداء الصلاة فيها.
ثانى التعقيدات، التوظيف السياسى الزائد لمقتل المدرس الفرنسى، وقد رمز رجلان من موقعين متناقضين لعمق الأزمة ــ «ماكرون» والرئيس التركى «أردوغان».
كلاهما حاول توظيف الأزمة سياسيا بمقتضى مصالحه ترميما لأوضاعه واستثمارا فى المشاعر العامة حولها.
أفرط «ماكرون» فى مغازلة أطروحات اليمين المتشدد بخطاب شعبوى، حتى لا تسحب من تحت قدميه ما تبقت له من شعبية، دون إدراك لعواقب التصريح بأن بلاده لن تتخلى عن الرسوم الكاريكاتورية، كأنه استفزاز عمدى للعالم الإسلامى عواقبه لا تحتمل فى فرنسا، التى يكاد يمثل العرب والمسلمون فيها نحو (10%) من مواطنيها.
بعد وقت لم يطل حاول «ماكرون» التخفيف من وطأة حماقة ذلك التصريح بالدعوة إلى التماسك الوطنى شاملا المسلمين.
بقدر آخر حاول «أردوغان» الاستثمار فى مشاعر الغضب الإسلامى، كأنه المتحدث باسمه وزعيمه المعتمد، فيما عينه مصوبة على صراعاته مع الرئيس الفرنسى على غاز شرق المتوسط وحرب النفوذ والمصالح فى مناطق عديدة بالمنطقة أهمها وأخطرها ليبيا.
كما حاولت جماعات إسلامية متشددة توظيف الأزمة لمقتضى صراعاتها الداخلية فى أوطانها، بأكثر من نصرة نبى الإسلام، وبعضها وجد فيها فرصة سانحة للتعبئة والتجنيد وتسويغ العنف والإرهاب.
هكذا أطل على المشهد الفرنسى المحتقن نوع آخر من التوظيف السياسى بين «الشعبوية» و«الإرهاب»، فكلاهما يتغذى على الآخر.
الأحزاب الشعبوية تستفيد من الإرهاب لتبرير العداء للأجانب والمهاجرين والتنكر للقيم الحديثة، وأهمها حريات التفكير والتعبير.
وجماعات الإرهاب تجد فى «الشعبوية» مبررات تضخ عنفا مضادا بالسلاح.
ثالث التعقيدات، ما يجوز أو لا يجوز فى ممارسة حريات الرأى والتعبير، وإذا ما كان ممكنا فى بلد مثل فرنسا وضع خطوط حمراء تمنع التعرض بالسخرية للأديان، أم أن كل شيء مباح ومعرض للنقد.
بالنسبة للفرنسيين فقد دفعت أثمانا باهظة حتى استقرت حريات الفكر والتعبير فى دساتير وقوانين الجمهورية.
سؤال حرية الفكر والتعبير غير قابل للجدل والمساومة والضغوط، ما هو مطروح الآن إذا ما كانت بعض الممارسات باسم حرية التعبير تفضى إلى شيوع خطاب الكراهية ورفع منسوب الشقاق على أساس دينى فى بلد يقوم على العلمانية.
من مصلحة فرنسا أن تعيد النظر فى أية تصرفات وأفعال تدعو إلى الكراهية، كالسخرية الكاريكاتورية من نبى الإسلام، وإلا فإن نوافير الدماء سوف تغرق باريس.
يستلفت الانتباه صغر سن الذين ارتكبوا أعمال التذبيح، فهم ليسوا من الأسماء المعروفة لدى سلطات الأمن، ولا يعرف عنهم أى انتماء إلى جماعات عنف وإرهاب.
كان ذلك تعبيرا عن خطورة اللعب بنيران الكراهية.
كل ما يؤدى إلى الكراهية يجب تجريمه.
القوانين الفرنسية نفسها تجرم معاداة السامية والتشكيك فى الهولوكوست على خلفية الشعور بالذنب، فيما العرب الذين لم يكونوا طرفا فى المحرقة دفعوا الثمن مضاعفا فى فلسطين.
رابع التعقيدات، أن العالم الإسلامى لا يدرك بدرجة كافية حقيقة أزماته، وأنه بحاجة إلى الالتحاق بالعصر صحة وتعليما وتنمية وتقدما علميا وتكنولوجيا، لا فى الفكر الدينى وحده.
نحن نتحدث ــ مثلا ــ عن حرية التعبير فى فرنسا، مقتضياتها وحدودها، فيما الدول الإسلامية، وأولها تركيا التى حاولت أن تستثمر الأزمة، تنكل بها على نطاق واسع.
بعض انتقادات «ماكرون»، قبل حادث مقتل المدرس وبعده، تستدعى التوقف عندها بالحوار والحجة، تحدث باستفاضة عما أسماه «الانعزالية الإسلامية» و«المجتمع الموازى»، وهذه أزمة حقيقية لا مدعاة تعانى منها دول أوروبية عديدة.
هناك آلاف الدراسات الأكاديمية نشرت فى دول الاتحاد الأوروبى، وتابعها بالدرس والتقصى متخصصون فى وزارات الخارجية والدفاع، كما فى أعرق الجامعات.
مشكلتنا ــ هنا ــ أننا لا نعرف كفاية زاوية الرؤية، التى ينظر بها الغرب إلى الجاليات العربية والإسلامية.
سوء الفهم متبادل، نحن نعانى من التهميش والتمييز وأزمات فى الهوية والاندماج، وهم يعانون من الانعزال فيما يشبه المعازل الاجتماعية والتعليمية.
ذلك موضوع حوار جدى فى الملف شبه غائب تحت عباءات حوار الأديان والحضارات.
بعض انتقادات «ماكرون» تخرج عن طبيعة دوره، فليس من شأنه «هيكلة الإسلام»، أو «الحديث عن أنه دين فى أزمة»، فالتجديد فعل اقتناع لا إملاء قوة، وهو مهمة العالم الإسلامى لا غيره.
وخامس التعقيدات، أن أزمة المدرس الفرنسى وتداعياتها تجلٍ جديد لأزمة مزمنة مرشحة لإعادة إنتاجها مرة بعد أخرى.
فى سبتمبر (1988) نشأت احتجاجات هائلة فى العالم الإسلامى إثر نشر رواية «آيات شيطانية» للكاتب البريطانى من أصل هندى «سلمان رشدى»، التى نالت من القرآن الكريم، وصدرت فتاوى أباحت دمه.
وفى سبتمبر (2005) نشرت صحيفة «يو لاندس بوستن» الدنماركية رسوما مسيئة للنبى الأكرم أعقبتها تظاهرات واحتجاجات ومقاطعات لبضائع ومنتجات ذلك البلد الأوروبى، قبل أن ينقضى كل شيء بالصمت.
وفى مطلع (2015) أثارت رواية للكاتب الفرنسى «ميشيل ويلبيك» تساؤلات من نوع مختلف، ماذا قد يحدث لأسلوب الحياة الباريسى إذا ما كان ممكنا أن يصل إلى قصر الإليزيه رئيسا مسلما متشددا.
كان ذلك تعبيرا عن نظرة سلبية شائعة ومخاوف كامنة.
فى سبتمبر من نفس العام نشرت مجلة «شارلى إيبدو» رسوما كاريكاتيرية ساخرة من نبى الإسلام أفضت تداعيات أزمتها إلى هجوم مسلح على مقر الجريدة وارتكاب مجزرة داخلها قبل تعقب المهاجمين والنيل منهم.
أغلق الملف بالدماء دون نقاش حقيقى حول ما جرى، أسبابه وتعقيداته، وعلت من جديد دعوات حوار الحضارات والثقافات والأديان دون الدخول فى صلب الأزمة وتعقيداتها وسبل تجاوزها، حتى انفجرت الأزمة مجددا فى مقتل المدرس الفرنسى.