بقلم: عبد الله السناوي
«إن هو لم يسدد ستموت الأرجنتين من البكاء، وإن هو لم يصوب سترفع الأرجنتين نصبا لعارها فى الفوكلاند. سيتوقف الشعور القومى عن الرقص، وستربح إنجلترا المغرورة الحرب مرتين».
كان ذلك نصا نثريا للشاعر الفلسطينى «محمود درويش» كتبه عام (1986) بأعقاب مباراة كرة قدم فى مونديال المكسيك جمعت الأرجنتين الجريحة فى كبريائها القومى بعد الهزيمة المذلة، التى تلقتها فى حرب الفوكلاند، وبريطانيا المستعلية بإرثها الإمبراطورى وقوة أسطولها البحرى، الذى أعاد احتلال الجزيرة المتنازع عليها.
كانت تلك المواجهة الرياضية امتدادا للحرب بصورة أخرى.
استعادت الأرجنتين شيئا من كرامتها المهدرة، أذلت محتلى الفوكلاند بأقدام أبنائها، رقصت وغنت فى الشوارع والميادين، تردد اسم «مارادونا» فى كل مكان كأيقونة رياضية ووطنية، صرخت من أعماقها أن الأرجنتين قادرة على التحدى وإنتاج المواهب الاستثنائية فى كرة القدم وكافة المجالات.
فى تلك اللحظة ولدت ظاهرة «دييجو أرماندو مارادونا»، التى تجاوزت ملاعب كرة القدم إلى ميادين السياسة فى القارة اللاتينية.
عند نهاية الرحلة تأكدت قيمته فى الذاكرة العامة، تجمعات فى الشوارع تبكى، انفلاتات مشاعر واشتباكات وشكوك أن يكون قد تعرض للقتل، خرجت جنازته من القصر الجمهورى، وجرت مراسم استثنائية بالنسبة للاعب كرة قدم.
هو ابن أفقر ضواحى بوينس أيريس حيث بيوت الصفيح والفقر المدقع وأكوام القمامة.
لم يحظ بأية درجة يعتد بها من الثقافة والتعليم تمكنه من الاطلاع على الأفكار الكبرى والتوجهات السياسية التى كانت تتصارع فى القارة وتعانى تبعاتها الأرجنتين.
بقدر معاناة الفقر فى الحى العشوائى الذى ولد فيه انحاز مبكرا إلى اليسار اللاتينى بأفكاره وتوجهاته ومعاركه.
لم يتنكر للطبقات المسحوقة التى خرج من صفوفها.
بملامسة الواقع أدرك وطأة النظم العسكرية، التى كانت تحكم وتستبد وتأتمر بما تمليه الاستخبارات الأمريكية.
بعد فوز بلاده بمونديال (1986) زار كوبا، كانت محض زيارة عادية، تسنى خلالها أن يقابل زعيمها «فيدل كاسترو».
بعد أربعة عشر عاما عاد إلى الجزيرة الكوبية مرة أخرى عام (2000) طلبا للعلاج من الإدمان، الذى حطم حياته، والسمنة المفرطة التى نالت من صورته.
كانت تجربته فى نابولى تراجيدية، أوصل ناديها المغمور إلى قمة المجد الكروى، لكنه غادرها شبه مطرود عندما تمكن منه إدمان الكوكايين.
فى السنوات التى عاشها بإحدى مصحات هافانا توطدت صلته وامتدت حواراته مع الزعيم الكوبى، تعلق به كـ«أب ثان»، رسم وشما لصورته على ساقه اليسرى، ووشما آخر لمواطنه الأرجنتينى «تشى جيفارا» على كتفه اليمنى.
المثير للالتفات أن «كاسترو» نفسه تعلق به كـ«ابن مقرب» وأزال معه أية حواجز مفترضة.
ذات مرة وصفه بـ«تشى كرة القدم».
شىء ما دفع «كاسترو» إلى تلك المقاربة بين رجلين تختلف بفداحة طباعهما وأفكارهما ومسار حياتهما.
أولهما ــ «تشى» طبيب أرجنتينى يسارى بالفكر شاركه فى الثورة الكوبية، لم يجد نفسه فى السلطة بعد أن وصل إليها، قاتل من جديد فى أماكن أخرى من القارة حتى لقى حتفه فى أحراش بوليفيا.
ثانيهما ــ «دييجو» لاعب كرة قدم استثنائى ربما الأفضل فى التاريخ، لا يجد نفسه فى شهرته الطاغية ويبحث عن معنى أعمق لحياته.
كانت الصداقة بين «فيدل» و«دييجو» خارج كل ما هو متوقع ومعتاد.
فى حياة «كاسترو» صداقة أخرى مماثلة فى فرادتها مع الروائى الكولومبى «جابرييل جارسيا ماركيز»، أعظم من كتب بالإسبانية منذ «سيرفانتس».
شىء ما يجمع بين «مارادونا» و«ماركيز».
ربما الإعجاب بـ«كاسترو» وتجربته.
ربما الغضب على أحوال القارة وتوحش الأدوار الأمريكية فيها لحصار أى أمل فى التغيير.
وربما الإحباط الذى انتاب فى بعض الأوقات حياتهما.
فى لحظة إحباط قرر «ماركيز» التوقف عن الكتابة بعد الانقلاب العسكرى الذى أطاح الرئيس التشيلى «سلفادور اللينيدى» مطلع سبعينيات القرن الماضى قبل أن يعاود الكتابة باعتبارها إرادة تغيير وفعل مقاومة.
بقدر أكبر تعرض «مارادونا» لنوبات إحباط واكتئاب، أفضت إلى تصرفات نالت من سمعته، حاول بقدر ما يستطيع أن يخرج منها بتوظيف شهرته الطاغية للدفاع عن قضايا إنسانية وسياسية تعاكس المألوف والشائع وحسابات الربح.
لا يمكن قراءة «مارادونا» كظاهرة سياسية دون التوقف طويلا ومليا أمام أضواء وظلال علاقته بـ«كاسترو».
من مفارقات التاريخ أنهما رحلا فى اليوم نفسه (25) نوفمبر.
«أنا قلبى فلسطينى».
كانت واحدة من عباراته التى ذاعت.
«بوش قمامة بشرية» و«قاتل».
كانت تلك صرخة أخرى أطلقها، وهو يقود تظاهرة فى بلاده عام (2005) ضد زيارة قام بها الرئيس الأمريكى بعد احتلال بغداد بعامين.
«ترامب مستبد وطاغية».
كانت تلك صرخة ثالثة.
ناهض السياسات الأمريكية المتوحشة فى القارة أو بأى مكان آخر بالعالم.
هكذا دعم «هوجو شافيز» وخليفته «نيكولاس مادورو» فى الصراع المفتوح على السلطة والمستقبل فى فنزويلا التى تعانى الفاقة والعوز رغم ثرواتها النفطية.
قال ذات مرة: «أنا شافيستا»، «شافيز» لا «كاسترو».
فى أوقات سابقة قال «شافيز» نفسه: «أنا ناصرى».
كان قصده استلهام التجربة المصرية فى وحدة القارة ومناهضة الهيمنة الأمريكية، استلهام لا احتذاء، ربما باعتقاد أنها أقرب إلى أحوال فنزويلا من التجربة الكوبية.
وكان قصد «مارادونا» الإعراب عن دعمه اللا محدود للتجربة الفنزويلية فى أوضاع حصار وحرب.
امتدت صلات «مارادونا» بالدعم والمؤازرة مع زعماء فى القارة من حجم «إيفو موراليس» (بوليفيا)، «لولا دا سيلفا» (البرازيل).
فى بلده الأرجنتين دعم الحزب البيرونى اليسارى على عهد الرئيس الراحل «نيستور كيرشنر» وخليفته بالانتخاب زوجته «كريستينا كرشنر».
فى الحساب الأخير قدمت الأرجنتين للعالم فى العقود الأخيرة أربعة نجوم فوق العادة من عوالم مختلفة، الأسطورة الأممى «تشى جيفارا» وأسطورة كرة القدم «دييجو أرماندو ماردادونا»، وبابا الفاتيكان «فرانسيس» بإرثه فى لاهوت التحرير بالقارة اللاتينية وانفتاحه على الثقافات الأخرى على نحو غير معهود، و«إيفا بيرون»، الزعيمة السياسية العمالية الأكثر شعبية فى تاريخ بلادها.
فى مسرحية غنائية شهيرة تحولت إلى فيلم عام (1996) عن قصة حياة «إيفيتا»، كما كان يدلل الأرجنتينيون زعيمتهم المحبوبة، لخصت الأغنية الذائعة: «لا تبكى من أجلى يا أرجنتين» قدر الحزن على فقدها والتوحد مع إرثها.
لم يخطر ببال «مارادونا» أن يحظى بحزن مماثل، كالذى حازته «إيفيتا»، وأن تبكى الأرجنتين من جديد.