بقلم: عبد الله السناوي
توشك الجزائر أن تغلق صفحة من تاريخها الحديث وتبدأ أخرى دون أن يكون واضحا مدى التغيير المحتمل فى بنية الحكم وحجم التعديل الممكن فى موازين القوى التى استقرت لعقود طويلة.
بقدر اتساق أى إجابة محتملة مع طلب الحراك الشعبى فى الانتقال من عصر إلى عصر لا من رجل إلى آخر يعيد إنتاج نفس النظام تبدأ رحلة التغيير، لكنها لن تكون سهلة ولا ثمارها دانية فى جميع السيناريوهات الماثلة.
كانت الاستقالة الإجبارية للرئيس المريض «عبدالعزيز بوتفليقة» عنوانا رئيسيا لنهاية حقبة سياسية امتدت لعشرين عاما، غير أنه يصعب الادعاء بأن ركائز النظام تقوضت للأبد.
من زاوية موضوعية وصحيحة فإن الاستقالة ــ بذاتها ــ انتصار تاريخى للإرادة العامة التى استشعرت الإهانة البالغة من عهدة رئاسية خامسة لرئيس يعجز بصورة كاملة عن مخاطبة شعبه وممارسة الحد الأدنى من مهامه، أو تمديد عهدته الرابعة باسم الإشراف على مرحلة انتقالية تضع دستورا جديدا وتؤسس لجمهورية ثانية.
من زاوية أخرى موضوعية وصحيحة فإن ركائز نظامه مازالت ماثلة فى بنية الدولة، وقد حاولت بأقصى ما تستطيع منع التغيير من أن يصل مداه، ناورت فى الوقت بدل الضائع لإعداد قرارات تصدر باسمه «لضمان استمرارية سير مؤسسات الدولة أثناء الفترة الانتقالية» بمعنى أن يفرض الماضى الذى يحتضر وصايته على المستقبل الذى لم يولد.
جوهر الصراع على مستقبل الجزائر يتلخص الآن فى سؤال واحد:
من يدير المرحلة الانتقالية؟
قبل الاستقالة الإجبارية لـ«بوتفليقة» تبدت ثلاثة أطراف فى مقدمة المشهد تطلب الإمساك بمقود الأحداث والتحكم فى مخرجاتها.
وكان السؤال ضاغطا: لمن تكون الكلمة الأولى.. لقيادة الجيش أم لجماعة الرئيس وشبكة المصالح الملتفة حولها.. أم لشخصيات مدنية ذات صدقية وتوافق وطنى كما يطالب الحراك الشعبى؟
الذين كانوا يحكمون باسم الرئيس المريض طلبوا الإشراف على المرحلة الانتقالية عبر شخصيات موالية، شكلوا حكومة جديدة فى اللحظات الأخيرة، دعوا المجلس الدستورى إلى عدم الاستجابة لطلب قائد الجيش الفريق «قايد صالح» تفعيل المادة (102) التى تجيز عزل الرئيس عندما يعجز عن ممارسة مهامه.
كان ذلك سعيا لترتيبات انتقالية تحفظ شبكة المصالح دون تغيير يذكر، أو إعادة إنتاج النظام مع إدخال بعض التعديلات الاضطرارية بضغط الحراك الشعبى.
هكذا بدأ صراع مفتوح بين قيادة الجيش وجماعة الرئيس وكانت النتائج بحقائق القوة محسومة سلفا.
اجهضت محاولة انقلاب لإزاحة الفريق «قايد صالح» شارك فيها شقيق الرئيس الأصغر ومستشاره «سعيد بوتفليقة» ورجل الاستخبارات القوى السابق الجنرال «محمد مدين» الشهير بـ«توفيق» وأطراف أخرى حاولت أن تورط الرئيس السابق «الأمين زروال» بإسناد قيادة المرحلة الانتقالية إليه.
فشلت المحاولة الانقلابية، كأنها فقاعات صابون، وسارعت أطرافها بإصدار بيانات تتبرأ وتنفى أى صلة بها.
وكان لافتا العبارات الحادة التى وصف بها «قايد صالح» جماعة الرئيس «فهى عصابة نهبت البلد واستولت على قيادته» وأدوارها ليست دستورية ولا هى مخولة إعداد قرارات تخص المرحلة الانتقالية بخاتم رئيس مريض.
كانت تلك رسالة تومئ إلى احتمال استخدام القوة المسلحة لعزل الرئيس واعتقال من حوله، وقد أفضت فورا إلى استقالة «بوتفليقة».
فى رسالة مبكرة على تصفية «جماعة الرئيس»، التى كانت تحكم فى ظلال النفوذ والمصالح، بدأت ملاحقة قانونية لنحو خمسين شخصية بتهم الفساد وغسل الأموال.
هذا نوع من صراعات السلطة سوف يأخذ مداه.
هكذا تحددت موازين القوة قبل بدء المشهد الافتتاحى للمرحلة الانتقالية.
المشكلة الحقيقية أمام طلب التغيير الجذرى أن الحراك الشعبى طاقة غضبه أكبر من قدرة تنظيمه، فلا قيادة معروفة توجه حركته ولا خطة تحكم تصرفاته، يعرف ما لا يريد، يتظاهر ضده ويمنعه، وهذا لا يكفى وحده للإمساك بحركة الحوادث وصياغة المستقبل وفق إرادته.
الأخطر أن أحزاب المعارضة ضعيفة بأثر تهميشها وحصارها المنهجى، الذى أفقر الحياة السياسية من حيويتها وقدرتها على طرح بدائل تتمتع بثقة الرأى العام، حيث تغيب الحريات العامة بصورة فادحة.
فى مثل هذه الأجواء المضطربة يبقى سؤال الجيش حاضرا فى المشهد:
إلى أى حد يتدخل فى المرحلة الانتقالية، وبأى حسابات؟
بحكم إرثه، الذى يعود إلى سنوات الكفاح المسلح، فهو ينظر إلى نفسه باعتباره عمودا فقريا للدولة وقاعدة الحكم فيها، لكنه محكوم بالحقائق الجديدة التى ولدتها قوة الحراك الشعبى.
هناك قوتان كبيرتان فى الجزائر الآن: الجيش والحراك.
فى بداية الحراك حذر قائد الجيش من العودة إلى ما أسماها «سنوات الجمر»، قاصدا «العشرية السوداء» التى سادتها أعمال إرهاب وعنف قضت على نحو مائتى ألف جزائرى، وكان مثيرا أن ذلك الوصف اقترن بثورة التحرير الوطنى الجزائرية.
لم يكن استدعاء التوصيف التاريخى فى محله، لكنه انعكاس لنوع النظر إلى إرث الثورة.
بأى قياس موضوعى الجيش الحالى ليس هو جيش التحرير الوطنى، لكن يظل الإرث ماثلا فى الذاكرة والتصرفات.
بقوة الحراك الشعبى تغيرت دفة المواقف داخل الجيش من دعم الرئيس إلى المطالبة بعزلة والتأهب لتقويض الجماعة التى تحكم باسمه.
نحن أمام حقائق مؤسسة لا إرادة منفردة لقائدها، فـ«قايد صالح» أقرب مؤيدى الرئيس المستقيل وذراعه اليمنى التى مكنته من إزاحات واسعة لمناهضيه فى الأمن والاستخبارات، كما أنه كان من بين محرضيه على تعديلات دستورية عام (2008) مكنته من تمديد رئاسته لأكثر من عهدتين ثالثة ورابعة وكادت أن تكون خامسة.
لا يوجد سر كبير فى تغيير المواقف والولاءات، إنها حقائق القوة وإرث المؤسسة التى لا يمكنها أن تقف فى مكانها دون أن يكون لها رأى يسمع فى الأحداث الجارية.
رغم ما يقال من أن العسكرى يتبع السياسى، إلا أن العكس هو ما يحدث فى الجزائر، وتدخل الجيش من طبيعة النظام نفسه.
هذه حقيقة تاريخية منذ استقلال الجزائر بثورة مسلحة نشأ خلالها جيش التحرير الوطنى وقد أخذ تدخله صيغا مختلفة، بعضها بإملاء الإرادات وتعيين الرئاسات، وبعضها بحركة الدبابات فى الشوارع، وقد حدثت مرتين.
الأولى ــ بقيادة العقيد «هوارى بومدين» على أول رئيس للجزائر المستقلة «أحمد بن بيللا» فى (19) يونيو (1965)، وقد أسند للجيش أدوارا أكبر مما كان له من قبل فى صناعة القرار السياسى والتحكم فى مفاصل الدولة.
الثانية ــ بقيادة اللواء «خالد نزار» على الرئيس «الشاذلى بن جديد»، الذى اجبر على الاستقالة فى أعقاب اكتساح «جبهة الإنقاذ الإسلامية» الجولة الأولى من الانتخابات النيابية أول تسعينيات القرن الماضى على أنقاض حزب «جبهة التحرير الوطنى» الذى ضربه الفساد.
كان ذلك تأسيسا لحرب أهلية امتدت لعشر سنوات، ارتكب الإسلاميون جرائم بحق الإنسانية ومواطنيهم واستباحوا الدماء فيما وقع الجيش فى خطايا رصدت ونشرت بتوسع فى الصحافة الفرنسية.
ليس بوسع أحد أن يستبعد انقلابا ثالثا بحركة الدبابات إذا سدت منافذ التغيير وعجزت القوى السياسية على التوافق وتشتت إراداتها فى صراعاتها.
اللعبة حتى الآن محكومة، فالتظاهرات سلمية والأطراف جميعها تتجنب أى صدامات، وهذا يحسب لها، غير أن قواعدها قد تختل إذا ما دخلت فى نفق مرحلة انتقالية مضطربة تستهلك الأحلام الكبرى التى حلقت فى شوارع الجزائر.
بقدر طاقة الحراك الشعبى على التماسك وقدرته على بناء التصورات والتوافقات وتحديد ما يريده بالضبط يمكن تجاوز ثنائية العسكرى والسياسى ودخول الجزائر إلى عصر جديد تستحقه وفق قواعد الدولة الحديثة.