بقلم: عبد الله السناوي
لم يكن لما أُطلق عليها بالخطأ «تسريبات هيلارى كلينتون» أثر يعتد به فى السباق الانتخابى الأمريكى، الذى يوشك أن يصل خطه الأخير بعد ساعات وأيام.
كان استدعاء إرث وزيرة الخارجية السابقة مقصودا بتوقيته، فحملة الرئيس الحالى «دونالد ترامب» مأزومة، واحتمالات تجديد ولاية ثانية له شبه مستبعدة وفق استطلاعات الرأى العام المتواترة.
أراد «ترامب» أن يقول إنه سوف يكسب نائب الرئيس السابق «جو بايدن»، كما فعل فى انتخابات (2016) ضد وزيرة الخارجية «هيلارى كلينتون»، وأنه سيخيب مرة أخرى نتائج استطلاعات الرأى العام، التى أجمعت على أنها سوف تربح تلك الانتخابات.
وأراد أن يقول إن صراعه الانتخابى مع «بايدن» يتجاوز شخصه إلى إدارة «أوباما» بكل رموزها وسياساتها.
كانت تلك دعوة للاصطفاف داخل حزبه الجمهورى، الذى بدأت ترتفع داخله أصوات تُجزم بخسارته، متوقعة «مجزرة انتخابية» للحزب كله فى انتخابات مجلسى الكونجرس.
بعبارة لافتة وصف «أوباما» و«بايدن» و«هيلارى» بـ«الخونة»، الذين تسببوا بأضرار سياسية فادحة للولايات المتحدة، مستشهدا برسائلها الإلكترونية، التى أمر بالإفصاح عنها دون أية حيثيات متماسكة تبرر ذلك التصرف.
قد تثبت على الإدارة السابقة مسئولية الإضرار بمصالح دول أخرى، لكنها لا تمس المصالح والاستراتيجيات الأمريكية، التى دأبت إداراتها المتعاقبة على ما هو أكثر من الإضرار بشعوب العالم الثالث وحقوقهم الأساسية.
لم يكن ذلك تسريبا، فقد جرى كل شىء عمدا ومعلنا ووفق إجراءات اتبعت.
كما لم يكن ممكنا إعادة فتح التحقيق مع الوزيرة السابقة، فقد خضعت للتحقيق بشأن الطريقة التى أدارت بها رسائلها الإلكترونية، وما انطوت عليها من تجاوز للتقاليد والقواعد، أمام مكتب التحقيق الفيدرالى وجرى الاستماع إليها أمام لجنة مختصة فى مجلس النواب.
فى الانقسام الأمريكى الداخلى بدا القصد واضحا، ولم تجر أى سجالات يعتد بها، فيما خضعت هنا باتساع الإقليم إلى مادة توظيف سياسى زائد، فكل طرف يلتقط ما يدعم روايته للتاريخ ويغض الطرف عن أية معلومات تنال من صدقيته.
لا جديد تقريبا فى رسائل «هيلارى»، فقد تولت بنفسها الإدلاء بشهادتها على ما حدث فى كتاب منشور.
من حيث درجة السرية وأهمية ما جرى الإفصاح عنه لا تعتبر نصوص المراسلات وثائق درجة أولى، ولا تقارن بمحاضر اجتماعات البيت الأبيض مع رؤساء دول، أو المداولات مع وزراء خارجية آخرين، أو بتقارير دبلوماسية كتبها سفراء فى مواضع صدامات الإرادات، أو بنصوص تفاهمات مع أجهزة استخبارات فى مناطق ملتهبة من العالم.
رسائل «هيلارى» محض انطباعات ومعلومات كتبت على عجل قد تحتوى، إذا ما درست بتمهل، على إشارات تضىء وتكشف بعض ما هو خاف ومجهول فى الصراعات على الإقليم.
فى رسائل «هيلارى» بدا ملف «الإخوان المسلمين» أكثرها إثارة.
لم يكن هناك جديد مجهول، لكنها أشارت مجددا إلى قدر التخريب، الذى لعبته الولايات المتحدة لإجهاض ثورة «يناير» وحرفها عن أهدافها الحقيقية فى طلب بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة ومدى التورط الذى وصلت إليه الجماعة ثمنا للوصول إلى الحكم على حساب أية قيمة وطنية أو قومية.
القراءة المتأنية للرسائل بأكبر قدر ممكن من الموضوعية تساعد على فهم ما قد يحدث مستقبلا، إذا ما حصد «بايدن» نتائج انتخابات (3) نوفمبر المقبل باعتبار أنه كان طرفا حاضرا وشريكا فى إدارة «أوباما».
تتبدى تساؤلات حول المواقف التى يمكن أن تتخذها إدارة «بايدن» فى ملفات الإقليم الملتهبة، وأخطرها مستقبل الاتفاقية النووية الإيرانية، ومصير ما يطلق عليها «صفقة القرن» وسيناريوهات ما بعد التطبيع الآخذ فى التوسع إلى مدى لم يكن متوقعا، حتى كادت تعلن الحقبة الإسرائيلية فى عدد كبير من الدول العربية، على حساب مصر ودورها التقليدى فى العالم العربى.
قبل أن نسأل عما قد يفعله «بايدن»، إذا انتخب رئيسا، علينا أن نتساءل: أين نحن مما يحدث حولنا؟.. وما موقفنا من قضايانا الكبرى؟.. ولماذا تراجعت أوزاننا فى إقليمنا حتى صار مصيرنا مرتبطا بمن يكسب الانتخابات الأمريكية؟!
العالم كله يراقب ويتابع السجالات الصاخبة الأمريكية، التى تنذر فى بعض السيناريوهات بانفلات وفوضى وحرب أهلية ثانية، إذا ما رفض «ترامب» التسليم بنتائج الانتخابات.
لسنا وحدنا من يراقب ويتابع، لكن البعض هنا فى الخليج يراهن على «ترامب» كقضية حياة وموت، ويكاد يلتقط بسعادة غامرة أية إشارة تطمئنه أنه لن يغادر البيت الأبيض!
لا «ترامب» يستحق أى تعاطف معه بقدر ما أضر بالقضية الفلسطينية واستخف بالعالم العربى كله، ولا «بايدن» ممثل جماعة «الإخوان» المنتظر فى البيت الأبيض.
مثل تلك الاستنتاجات ساذجة إلى حد لا يصدق.
فى الأيام الأولى لثورة «يناير» تبدى داخل البيت الأبيض الأمريكى، خاصة فى مجلس الأمن القومى، صراع بين الحرسين القديم والجديد.
مال القدامى إلى الإبقاء على الرئيس المصرى «حسنى مبارك» بحسبانه حليفا موثوقا ومجربا.
ومال الشبان إلى التغيير وإزاحة «الديكتاتور العجوز».
لم تكن «هيلارى» ولا «بايدن» مع التغيير.
هذه حقيقة مؤكدة، لكن تدافع الحوادث وسقوط شرعية «مبارك» فى الشوارع والميادين أفضى بالضرورة إلى السعى لتوظيفها وفق المصالح الأمريكية.
جرى الرهان على «الإخوان» بحسبانهم أكبر قوة سياسية منظمة فى البلد، جرت اتصالات وتفاهمات عنوانها الرئيسى الاعتراف بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها.
كان ذلك من ضمن تصور استراتيجى لإعادة ترتيب المنطقة من جديد بالتخلص من أعباء النظم المستهلكة.
فى عام (2007) صدرت تصريحات مثيرة للقيادى الإخوانى المعروف «عصام العريان» تدعو إلى عودة اليهود المصريين وتعويضهم.
كان ذلك إعلانا مقصودا عن تفاهمات سرية جرت وقائعها فى عواصم أوروبية عديدة أهمها العاصمة الإيطالية روما، كما تسرب ونشر وقتها.
فى تصور «ترامب» أنه أنجز صلب الهدف الاستراتيجى بتمكين إسرائيل من قيادة المنطقة باتفاقات تطبيع متتالية معها ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس وتوفير غطاء سياسى لمزيد من التوسع والاستيطان دون صدام مع الدول الحليفة ودون توقف فى نفس الوقت عن ابتزازها ماليا باسم الدفاع عنها.
قد تختلف مقاربات «بايدن» وقد يضغط بملف الحريات وحقوق الإنسان للحصول على تنازلات استراتيجية جديدة لصالح إسرائيل، كما فعلت إدارة «جورج دبليو بوش» بعد احتلال العراق عام (2003).
أرجو الالتفات إلى أن أغلب الأصوات اليهودية سوف تصب لصالح «بايدن»، لا لـ«ترامب» الذى فعل لإسرائيل ما لم يفعله أى رئيس سابق.
هذه حقيقة لها تفسيرها فى البنية السياسية للجالية اليهودية، التى تنحاز تقليديا، شأن الأقليات الأخرى، إلى الحزب الديمقراطى.
على عكس «أوباما» و«ترامب» يتمتع «بايدن» بخبرة طويلة وعريقة فى السياسة الدولية، التى تولى ملفها لسنوات طويلة فى مجلس الشيوخ الأمريكى.
لا هو فى حاجة إلى دروس مستجدة، ولا أن ينظر فى مرآة «رسائل هيلارى».