بقلم: عبد الله السناوي
لا يوجد مثيل، أو شبه مثيل، للأداء الانتخابى للرئيس الأمريكى الحالى «دونالد ترامب» بالقياس على أية تجربة أخرى منذ الرئيس الأول «جورج واشنطن» فى نهايات القرن الثامن عشر.
بطباعه فهو مختلف، وكل شيء آخر مختلف فى الأجواء السائدة والمفردات المستخدمة والسيناريوهات المحتملة لما قد تصبح عليه الولايات المتحدة فى المدى المنظور.
بإجماع استطلاعات الرأى العام فإنه سوف يخسر بفداحة انتخابات (3) نوفمبر المقبل إذا ما أجريت الآن، غير أنه لا يعترف بها، أو يقر بحقائقها، ويرى أنها تنطوى على تدليس متعمد من خصومه الديمقراطيين ومراكز الاستطلاع ووسائل الإعلام التى تناهضه.
يفترض تقليديا قرب الحسم الانتخابى فى صناديق الاقتراع تأجيل أية قرارات كبرى، أو تغييرات مفاجئة، إلى ما بعده، لكنه يستخدم كل الأوراق التى فى حوزته، يخرق أية قواعد متعارف عليها فى إدارة السياسة العامة، يفعل أى شيء وكل شيء لكى يكسب السباق الانتخابى فى الأمتار الأخيرة.
بقدر اندفاعاته فهو شخصية براجماتية، أنكر استطلاعات الرأى العام، لكنه استجاب لرسالتها، أحدث تغييرا جراحيا فى فريقه الانتخابى وهاجم إدارته الحالية ملمحا إلى أنه قد يغيرها بالكامل.
لديه يقين ما، يحاول أن ينقله إلى أنصاره حتى لا يفقدوا حماسهم الانتخابى، أو ثقتهم فى فرصه، أنه سوف يكرر مع منافسه الديمقراطى «جو بايدن» نفس ما جرى مع «هيلارى كلينتون» فى انتخابات (2016)، التى كانت الاستطلاعات تجزم بخسارته أمامها.
بصورة ما نجح فى نقل ذلك التصور إلى متابعى الانتخابات الأمريكية من صحفيين ومحللين وباحثين، الذين باتوا يتريثون فى إصدار الأحكام، تحسبا أن يفعلها «ترامب» مرة أخرى فى الأمتار الأخيرة.
يكاد «بايدين» أن يكون نسخة عكسية من «ترامب»، فهو سياسى تقليدى صعد من داخل الحزب الديمقراطى، واكتسب خبرته فى مجلس الشيوخ قبل أن يصعد بجوار «باراك أوباما» نائبا للرئيس.
لا كاريزماتى مثل «أوباما» ولا متفلت كـ«ترامب».
هو رجل يتحرك فى المناطق الرمادية، اضطرته تفاعلات حزبه إلى اختيار سيدة سوداء يسارية نائبة له على بطاقة ترشحه فى سابقة هى الأولى من نوعها.
بمقتضى الحسابات الانتخابية الباردة لا اختياره الشخصى الحر، جرى اختيار «كامالا هاريس» لعلها تساعد فى تحسين صورته وجذب أصوات جديدة لصالحه رغم أنها هاجمته بضراوة أثناء الانتخابات التمهيدية داخل الحزب الديمقراطى.
حسب استطلاعات الرأى العام فإن الكتلة الغالبة التى سوف تصوت لـ«بايدن» لا تكن إعجابا حقيقيا به بقدر كراهيتها لـ«ترامب».
بالأرقام: (72%) من الأمريكيين يرون أن بلادهم ليست على الطريق الصحيح.
انتخابات نوفمبر فى حقيقتها استفتاء على «ترامب» أكثر من أن تكون اختيارا بين رجلين وبرنامجين ونظرتين مختلفتين لمستقبل أمريكا.
بالتزامن هناك استفتاء آخر يتابع ولا يقترع.
بقدر الدور المحورى الذى يلعبه ساكن البيت الأبيض فى الأزمات الدولية فإن الانتخابات الأمريكية شأن عام يخص العالم كله خصوصا مناطق المنازعات والتوترات.
كان صعود «ترامب» إيذانا بحسابات جديدة فى القارة الأوروبية، تصدعت تحالفات ونشأت نزاعات هددت القيادة الأمريكية وتفشت نزعات شعبوية أخذت تنحر فيما هو مستقر من قيم حديثة.
بترجمة سياسية فإن انتخابات الخريف تؤشر لنقطة تحول محتملة فى الأدوار التى تلعبها الولايات المتحدة فى نظام دولى جديد يوشك أن يولد بآثار وتفاعلات ضربات جائحة «كورونا».
قد يحاول «بايدن» ترميم التحالفات القديمة بين الحلفاء الغربيين، لكن المهمة لن تكون يسيرة بالنظر إلى التجريف الذى لحق بركائز النظام الدولى وقدر التحولات التى تنبئ بعالم جديد بعد أن تنقضى الجائحة.
العالم اختلف وموازين القوى الاستراتيجية والاقتصادية لم تعد على النحو الذى كانت عليه أعقاب الحرب العالمية الثانية.
فى الاستفتاء الدولى، بالمتابعة دون اقتراع، هناك شبه إجماع بين نخب عديدة على رفض ما يمثله «ترامب» من خيارات وسياسات ونظرات لحقوق الأقليات العرقية والجاليات العربية والإسلامية.
وفى الاستفتاء الأمريكى، بالمشاركة والتصويت، هناك تراجع فادح فى فرص «ترامب» على خلفية إدارته لأزمتى جائحة «كورونا» والعنصرية المتجذرة فى بلاده، فضلا عن تراجع الاقتصاد، إنجازه الأكبر الذى كان يعول عليه فى إعادة انتخابه دون منافسه حقيقية.
فى الأمتار الأخيرة يصعب توقع ما قد يُقدم عليه «ترامب»، ولا التعهدات التى قد يقطعها على نفسه لاكتساب أصوات جديدة.
يمكن أن يفعل الشيء وعكسه، كأن يخوض حربا بذريعة ما، أو أن يسعى لاتفاق سلام مع نفس الجهة.
هو مستعد أن يخوض حربا بالوكالة مع إيران ومستعد أن يوقع اتفاق سلام معها فى غضون شهر واحد بعد انتخابه، وان يفعل الشيء نفسه مع كوريا الشمالية، كما أعلن وصرح.
كل شيء محتمل وكل سيناريو وارد فى الأمتار الأخيرة.
هكذا طرحت أسئلة قلقة لم يكن ممكنا تصور أن تعرض نفسها على الرأى العام الأمريكى، كأنها دولة من العالم الثالث ديمقراطيتها مطعون عليها وانتخاباتها مزورة.
من هذه الأسئلة المستغربة إذا ما كان ممكنا إرجاء الانتخابات بذريعة تفشى الجائحة، أو خشية خسارة الانتخابات فى ترجمة سياسية أخرى.
بقوة الدستور لا يمتلك الرئيس الأمريكى حق إرجاء الانتخابات.
«أنا لا أريد تغيير التاريخ.. لكن هذه الانتخابات سوف تكون الأكثر تزويرا فى التاريخ».
هكذا تراجع عما دعا إليه فاتحا جبهة أخرى فى الصدام.
نحن أمام رجل يعتبر هزيمته المحتملة تزويرا مسبقا، وينظر إلى الموقع الرئاسى الأمريكى كحق حصرى لا يمكن التخلى عنه.
ومن هذه الأسئلة المستغربة: هل يرفض «ترامب» مغادرة البيت الأبيض إذا لم يعترف بنتائج الاقتراع.. وهل يضطر «بايدن» إلى طلب مساعدة القوات المسلحة لتسلم السلطة؟!
«ترامب» لوح باحتمال عدم قبوله نتائج التصويت: «أنا لست خاسرا جيدا، أنا لا أحب أن أخسر، سوف أرى ماذا أفعل، لن أقول نعم ولن أقول لا كذلك».
بالنسبة إليه فما هو مستحيل احتمال غير مستبعد وبالنسبة إلى منافسه فإنه سيناريو كابوسى.
إنها طريقة «ترامب» عند الأمتار الأخيرة، لعله يربك منافسه ويكسب رهانه على تجديد ولايته رغم استطلاعات الرأى العام.