بقلم: عبد الله السناوي
لم يكن النشر فى الصحف من مقاصد الأستاذ «محمد حسنين هيكل» عند كتابة وجهة نظره فيما كان دائرا من جدل صاخب وممتد حول أزمة الرسوم الدنماركية المسيئة للنبى الأكرم.
تصادف وقتها أن جريدة «العربى» كانت تستعد لإصدار عددها رقم ألف.
دعوته أن يشارك فى ذلك العدد التذكارى برسالة إلى صحفييها وقرائها.
كان متحرجا من نشر نص مكتوب بأسلوبه، فقد أعلن انصرافه عن كل كتابة قبل وقت قصير حتى فاجأنى قبل طبع الجريدة بساعات: هل لديك مساحة تتسع لمساهمة منى فى العدد التذكارى؟
فى (١٩) يونيو (٢٠٠٥) طالع القراء لأول مرة منذ استئذانه فى الانصراف (سبتمبر 2003) نصا طويلا مكتوبا بأسلوبه عنوانه: «صراع الحضارات ـ الأزمة وما حولها حتى الرسوم الدنماركية».
كان رسالة للعالم العربى ـ تنبيه وتحذير من الوقوع فى الأفخاخ المنصوبة.
«ليس مصادفة ـ دون أن يكون بالضرورة مؤامرة ـ أن حكاية صراع الحضارات ـ وحكاية نهاية التاريخ ـ توافق ظهورها مع الغلبة الإمبراطورية فى الحرب الباردة، دون تنبه كافٍ ـ عندهم كثيرا ـ وعند غيرهم أحيانا ـ إلى أن وهم القوة لا يعطى أصحابه احتكارا، ولا يسلب غيرهم حقا، فى الشراكة الإنسانية الأوسع، لأن هذه الشراكة فى الحضارة أقوى من السلاح ومن الإلحاح، حتى إذا اجتمعا معا فى مشروع إمبراطورى يملك أكبر ترسانة نووية جنبا إلى جنب مع أوسع شبكة للمعلومات، الإنترنت».
«الواقع أنه عندما خرجت الإمبراطورية الأمريكية غالبة فى صراع الحرب الباردة ـ وكان ذلك قبل مفاجأة (١١) سبتمبر (٢٠٠١) بكثير، فإنها رسمت لاستراتيجية زمانها الجديد عدة خطوط ـ فهى:
ـ تريد أن تحتفظ بتقدمها وتمنع ظهور منافس خطر عليها، كما حدث مع كل الإمبراطوريات، وذلك بالاستيلاء على الحضارة الإنسانية ــ نهاية التاريخ.
ـ وتريد أن تخفف من مسئوليتها تجاه الأقاليم التى تعثر فيضها وجفت منابعها، فهذه بالتخلف أصبحت عبئا على المحيط الحضارى، تريد أن تأخذ منه إلى الأبد بينما عطاؤها توقف من زمن صراع الحضارات.
ـ ثم إن الإمبراطورية تريد أن تؤكد سطوتها الأبدية بإظهار تفوقها وخصوصا السلاح، وهكذا وقعت استعراضات التفرد الأمريكى فى كل الميادين ابتداء من استثناء كل أمريكى من أى مساءلة دولية مهما فعل ـ وإلى تميز التجارة الأمريكية فى كل الأسواق بصرف النظر عن حرية السوق ـ وإلى استئثار بحقوق الملكية العلمية والفنية فى كثير مما كان متاحا فى مجمع الحضارة الأكبر قبل أن تظهر الدولة الأمريكية من الأصل ـ ثم إنها لا تقبل أن تردع نفسها عن تلويث البيئة تملصا من قيود تفرض على غيرها حرصا على كوكب الأرض نفسه ـ كما أنها تطلب احتكار موارد الطاقة وليس مجرد النهم فى استهلاكها ـ ثم زاد أن الإمبراطورية الأمريكية تريد الآن أن تستولى بوضع اليد على الحضارة الإنسانية بأسرها لتختم طابعها على المحيط بأسره تأكيدا نهائيا وتقنينا شرعيا لتفوق أبدى.
ـ وضمن هذه المحاولة لجأت الإمبراطورية إلى حروب رخيصة تستغل بطش الصدمة والرعب Shock &Awe فى مناطق ضعيفة ورخوة بأقل التكاليف، كى تظهر هول الجحيم الذى أعدته لمن يعصى، وكذلك تحولت أفغانستان وتحول العراق إلى ساحات دم ولهب ـ مأساتها أنها لا تعرف فى معظم الأحيان هدفا واضحا أو خطة استراتيجية مدروسة، وعلى أى حال فقد جاءت النتائج الواقعة مغايرة للمطامع والغزوات.
ـ وإذا عُدت الآن إلى مقولة صراع الحضارات أو حوارها فربما تكون النقطة الجوهرية أنه يتحتم التفرقة باستمرار بين شراكة الحضارة وبين صراعات القوة، فالقوة ميدان تصويب وضرب نار، والحضارة شراكة ومحيط أنوار».
«ـ قبل سنوات وحين كان لهذا الإقليم العربى الإسلامى بعض القدرة ـ فإنه تمكن من استصدار قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة يعتبر الصهيونية نوعا من أنواع العنصرية ـ لكنه بعد سنوات وعندما حل العجز محل القدرة سقط ذلك القرار، وكان العرب المسلمون بين الذين صوتوا لإسقاطه، ثم صدر بدلا منه قرار يعتبر مناقشة المحرقة اليهودية سواء فى وقائعها أو فى أعداد ضحاياها جريمة إنسانية تستوجب العقاب.
ولم يكن القرار الأول مجرد ازدواجية معايير لصالح طرف، ولا كان القرار الثانى مجرد ازدواجية معايير لصالح الطرف الآخر، لكنه فى الحالتين كان حركة موازين ترجح أو تخف وفق ما يسندها من إرادة الفعل وقدرة الفعل!».
هكذا ركز رسالته على فكرة جوهرية دعت إلى: «تجنب فخاخ الاستدراج والاستنزاف بسبب ما يفعله آخرون من أصحاب الغرض فى الإقصاء والاستبعاد، هؤلاء الذين تنبهوا بسرعة إلى ما لحق بالعقلية العربية الإسلامية جراء عصور القهر والظلام، فإذا هم يحاولون تثبيت الانكسار وتعميقه فى العقل وفى الإرادة لدى العرب والمسلمين، والسبيل إلى ذلك استثارتهم بين الحين والآخر بما يدفعهم أكثر وأكثر إلى عزلة البحر الميت وملوحة مياهه ومرارتها.
لقد اكتشفوا أنه يكفيهم أن يلمسوا الثقافة العربية الإسلامية فى عزيز عليها، فإذا هى تستثار وتغضب ـ ثم تتراجع وتتباعد بحيث تعزل نفسها وتتنازل أكثر وأكثر عن نصيبها فى شراكة الحضارة.
المحزن أن هناك من اعتدى على المقدسات العربية عملا ـ وليس لمساـ حين سيطر على المسجد الأقصى فى القدس. وفى نفس الاتجاه فإن ذات الطرف رسم خنزيرا وكتب عليه اسم الرسول الأعز الأكرم.
وهناك ـ غيره ـ قام بتوظيف الدين الإسلامى ـ قديمه وجديده ـ فى حرب باردة عليه ـ ساخنة على شباب عربى ومسلم فى أفغانستان ـ ثم أمسك فى النهاية بمن حاربوا لحسابه ووضعهم وراء القضبان فى جوانتانامو، ثم داس بالأقدام على كتابهم الكريم ومزق صفحاته ورماها فى المرحاض أمام عيون الجميع فى المعسكرات وخارجها.
وفى هذا كله لم يغضب أحد ـ بل تستر كثيرون، لكننا مع ذلك رحنا ـ نحن الذين لم نغضب من الفعل ـ نثور باللمس كأننا كنا نبحث عن أهداف سهلة رخيصة».
هذا بالضبط ما يحدث الآن فى أزمة المدرس الفرنسى وتداعياتها.
فى أكتوبر (2007) ذكر النخبة البريطانية فى محاضرة تذكارية ألقاها بجامعة أوكسفورد البريطانية العريقة بمناسبة افتتاح كلية إعلام بها بأصول وخلفيات ما يتعرض له الشرق الإسلامى من تشويه.
«إنه قبل سنوات قليلة وقع استغلال فجيعة إنسانية محزنة ضربت مدينة نيويورك فى الحادى عشر من سبتمبر ٢٠٠١، وبهذا الاستغلال تحولت الفجيعة إلى عملية تلاعب مقصود بالصور وبأسلوب خداع البصر، فإذا العالم يفاجأ بأن صورة المسلم ـ عربيا وغير عربى ـ قد أزيحت لتحل محلها صورة المتعصب الإرهابى، ثم تضافرت عناصر من عوالم القرار والأفكار والحوار تحت ضغوط المصالح المتصارعة بقصد ترسيخ هذا التلاعب بالصور وخداع البصر، إلى حد إعادة كتابة قصة الإرهاب فى التاريخ، فإذا الشمال برىء منه، وإذا الشرق الأقصى بعيد عنه، وإذا الدين الإسلامى وحده مرادف للانتحار والقتل فى المخيلة العامة الشائعة فى الشمال».
«إن الشرق المسلم يعانى من الأقلام والأضواء والعدسات، كلها توجهت وتركزت عليه، بينما هو يعانى المرحلة الأصعب فى الانتقال من قديم إلى جديد، ومن تأخر إلى سبق، ومن عتمة إلى نور».
.. و«بالطبع فإنكم تتذكرون أن ولادة الجديد عندكم جرت وراء ستار، وأما فى عالمنا فإنها جارية فى منتصف النهار، وكذلك كان الجديد عندنا حملا ومخاضا وميلادا عاريا تحت الوهج وعلى مرأى ومسمع من عالم يتابع ما يجرى متجاهلا لحقيقة أن الحمل والمخاض وولادة الجديد حتى وإن كانت مؤلمة عندكم كما هى عندنا، فإن الفارق أنها جرت عندكم مكتومة لتظهر بعدها فى كتب التاريخ بأثر رجعى، لكنها عندنا جرت على الهواء مباشرة فبدت وكأنها فضائح بالصورة والصوت واللون».
ما أراده ملخصا «أن القواعد والأصول تحددت فى الغرب، وأصبح ممكنا إرساء أصول وترسيخ بناء، وذلك لم يحدث بعد عندنا فى الجنوب، حيث ما زالت الحدود مضطربة، وما زالت القواعد واهية، لأن الصراع من أجل التنوير والحرية والتقدم يتخبط محتدما تحت ظروف عصية».
فى رصده العام للظروف العصية فى مخاض ولادة جديدة أشار إلى «أن نظم الحكم القائمة عجزت أن تؤسس لنفسها شرعية دستورية، أو قانونية، ولم تعد سلطتها اختيارا وتفويضا وإنما إملاء وقمعا، تعطلت إزاءه دواعى الرشد السياسى والاجتماعى وإدارة الأزمات، وذلك ساعد على الإساءة لمشهد التطور عندنا وإساءة إلى صورته».
كانت تلك مداخلة فى عمق الأزمة لا على هوامشها.