بقلم: عبد الله السناوي
كان ذلك مفاجئا بتوقيته ونصه ورسالته إلى المستقبل المنظور.
بدت الكلمة، التى ألقاها الأمير السعودى «تركى الفيصل» فى «حوار المنامة» (2020)، كما لو أنها تنتمى إلى عصر آخر ومكان آخر.
بحكم طبيعة «حوار المنامة» فإن موضوعه الرئيسى الأمن الإقليمى والتطبيع مع إسرائيل والترتيبات المحتملة فى حسابات القوى والمصالح يشارك فيه رجال أمن واستخبارات ورجال سياسة وحكم يمثلون شبكة واسعة من المصالح والاستراتيجيات المتحالفة، أو شبه المتحالفة.
بتوصيف آخر فهو منصة تعارف وتواصل تمهد لأدوار إسرائيلية متعاظمة فى الإقليم، تستكشف الفرص المتاحة والتهديدات الماثلة أمام ما يراد إعادة ترتيبه.
على عكس طبيعة «حوار المنامة» ذهب رئيس الاستخبارات السعودية الأسبق وسفيرها القديم فى العاصمتين الأمريكية والبريطانية إلى أبعد نقطة تناقض مهمته.
فيما يشبه عريضة الاتهام المحكمة، أو المرافعة المريرة عن القضية الفلسطينية بوصف الصحافة الإسرائيلية، وصف الدولة العبرية بـ«النفاق».
«تدعى أنها مهددة وجوديا من قتلة متعطشين للدماء يرغبون فى القضاء عليها فيما هى تحتل الأراضى الفلسطينية وتشرد أهلها».. «تتوسع قسرا على حساب الفلسطينيين، تهدم المنازل كما تشاء وتقوم باغتيال من تريد».. «تتحدث عن السلام دون أن تبدى استعدادا لوقف المهزلة المأساوية فى فلسطين المحتلة».
كانت تلك لغة غير معهودة وغير متوقعة استمع إليها مصدوما وزير الخارجية الإسرائيلى «جابى اشكنازى».
يستلفت النظر فى النص المثير وصف إسرائيل بأنها «قوة استعمارية غربية».
ذلك التوصيف يعود إلى الأدبيات القومية العربية فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى، لم يعد أحد يستخدمه، أو يشير إليه بدواعى الهزيمة الداخلية، التى نالت من العالم العربى.
المعنى أنها مصطنعة فى الإقليم، وجودها غير طبيعى وغير شرعى.
«لا يمكن علاج جرح مفتوح باستخدام المسكنات».
كان ذلك تعبيرا آخر انطوى على نوع من النقد لاتفاقيات التطبيع التى جرت، ونوع آخر من الممانعة فى أى تطبيع سعودى مماثل تشير إليه تصريحات معلنة ولقاءات مسربة.
فيما هو لافت ومختلف فى لغة الخطاب إشارته إلى «معسكرات الاعتقال»، التى يقبع فيها الفلسطينيون ــ كأنه يستحضر بالمضاهاة التجربة النازية، التى عاناها اليهود فى سنوات الحرب العالمية الثانية.
كانت تلك عودة أخرى إلى مفردات الخطاب القومى العربى فى لحظة انكسار مخيم.
حملت إشارته إلى الغارات الإسرائيلية المتكررة على بلدان عربية ــ قاصدا سوريا والعراق ولبنان، نقدا ضمنيا لتخاذل النظم العربية فى الدفاع عن أمنها القومى المشترك.
ثم كانت الإشارة إلى الاحتكار الإسرائيلى للسلاح النووى، الذى تحرمه على أى دولة أخرى فى الإقليم ــ قاصدا إيران، دخولا شبه مباشر فيما هو محرم الحديث فيه، أو التطرق إليه.
كان مستلفتا فى كلمة رئيس الاستخبارات السعودية الأسبق، المقرب من العاهل السعودى «سلمان بن عبدالعزيز»، أنه لم يتحدث عن إيران كعدو محتم، ولا عن إسرائيل كصديق مفترض.
لا فرصة لأى تعاون مع إسرائيل ضد إيران.
كل احتمال يرتهن بإنهاء المهزلة المأساوية ضد الفلسطينيين.
أراد أن يقول إذا لم يأخذ الفلسطينيون ما يطلبونه من حقوق مشروعة، فلا سلام محتمل مع إسرائيل ولا تطبيع معها.
الكلام بنصه دوى فى المكان، ودوى بالوقت نفسه سؤالا عما إذا كان تعبيرا عن توجهات رسمية سعودية جديدة فى مسألة التطبيع وحسابات الإقليم.
أى كلام يكتسب قيمته من شخص صاحبه وقدر تأثيره فى حركة الحوادث.
نحن أمام رجل مخضرم فى الخامسة والسبعين من عمره، ترأس الاستخبارات السعودية بين عامى (1977) و(2001)، اقترب من السياستين الأمريكية والبريطانية سفيرا لفترات طويلة أخرى فى واشنطن ولندن.
إلى أى حد يعبر ما قاله عن المملكة السعودية؟
بتعبير «تركى الفيصل»: «هذا رأى الشخصى».
وبنظر «أشكنازى» فإنها «لا تعكس الحقائق، أو روح التغيير التى تمر بها المنطقة، عصر إلقاء التهم انتهى، نحن فى عصر جديد، عصر السلام!».
وباعتقاد المحللين الإسرائيليين، فإنه يعبر عن رأى الملك «سلمان بن عبدالعزيز».
هناك خمسة إشارات قد تساعد فى فهم ما حدث فى «حوار المنامة»، حقيقته وحدوده وتداعياته.
الأولى، رواية استمعت إليها من وزير خارجية عربى سابق، شارك فى دورة العام الماضى من «حوار المنامة».
فى مداخلة ألقاها أكد أن التطبيع يفتقر إلى أية شعبية، وأية شرعية، وأنه عبء على النظم العربية قد لا تحتمل عواقبه.
ما أن أنهى مداخلته حتى أقبل عليه الأمير السعودى موافقا ومؤيدا.
كان ذلك تأكيدا، حسب الوزير العربى السابق، على أن ما قاله فى «حوار المنامة» (2020) ليس جديدا على اعتقاداته الشخصية.
المستلفت ــ هنا ــ أن «تركى الفيصل» ساعد بأوقات سابقة من موقعه كرئيس للاستخبارات السعودية فى فتح قنوات اتصال مع إسرائيل.
ربما كان ذلك من ضرورات وظيفته، وربما يكون قد راجع تجربته.
الثانية، أنه رجل يمتلك الشجاعة الكافية للتعبير عن آرائه.
فى عشاء قاهرى على شرفه فى بيت وزير خارجية مصرى سابق شارك فيه وزراء خارجية آخرون سابقون وممثل بلاده فى الجامعة العربية، تطرق الحوار إلى مناطق ومساحات حساسة بقدر كبير من الشفافية.
فيما قاله: «المذهب الوهابى أكثر المذاهب الإسلامية تخلفا»، حين لم يكن مثل الرأى مسموحا به، أو الإشارة إلى فحواه فى بلده.
ذلك ترجيح آخر لفرضية الرأى الشخصى.
الثالثة، أن رئيس استخبارات سعودى آخر، وسفير سابق فى واشنطن، الأمير «بندر بن سلطان» اتخذ موقفا معاكسا على محطة «العربية» فى ثلاث حلقات وثائقية تعرض خلالها بالتجريح للقيادات الفلسطينية، التى أنكرت أدوار بلاده فى تاريخ الصراع العربى الإسرائيلى، واتهمتها بـ«الطعن فى الظهر».
تجاوزت انتقاداته ما هو مشروع إلى النيل من عدالة القضية نفسها، كأنها دعوة مفتوحة بالنكاية للتطبيع والاعتراف بإسرائيل دون إبطاء، أو تحرز.
كان ذلك تعبيرا عما هو جاهز أن يعلن عن نفسه فى أى وقت.
أيهما يعبر أكثر من الآخر عن السياسة السعودية الحالية؟
الحقيقة أقرب إلى مساحات الظلال، التوجه إلى التطبيع حاضر والتخوف من تداعياته ماثل.
الرابعة، قدر الخيارات المتضاربة فى الموقف الرسمى السعودى، الذى يعبر عنه وزير الخارجية «فيصل بن فرحان»: «من أجل أن نمضى قدما فى التطبيع، علينا أن نرى تسوية للنزاع الفلسطينى ودولة فلسطينية قابلة للحياة على غرار ما تم تصوره فى مبادرة السلام العربية».
بقوة الأمر الواقع فإن المبادرة العربية للسلام ماتت إكلينيكيا، يصعب الآن الحديث بجدية عن أية مقايضة محتملة بين التطبيع الشامل مقابل الانسحاب الكامل من الأراضى العربية المحتلة منذ عام (1967).
مثل هذا الكلام الدبلوماسى يمنح بلاده وقتا مستقطعا إضافيا للتريث قبل الإقدام على أى تطبيع خشية عواقبه على نقل السلطة وتماسك الدولة.
الخامسة، إحدى الفرضيات المتداولة، التى لا يمكن استبعادها فى فهم ما حدث فى «حوار المنامة»، أن ما قاله «تركى الفيصل» يعكس مدى الغضب الذى انتاب مراكز الحكم فى السعودية من التسريب الإسرائيلى للقاء الذى ضم ولى العهد «محمد بن سلمان» ورئيس الوزراء الإسرائيلى «بنيامين نتنياهو»بحضور وزير الخارجية الأمريكى «مايك بومبيو» فى مدينة «نيوم» على البحر الأحمر.
كان التسريب محرجا بأكثر من أى توقع.
عكست مداخلة «تركى الفيصل» فى «حوار المنامة» قناعاته الشخصية ومدى سيولة الحسابات والخيارات السعودية قبل اتخاذ أية خطوة مكلفة فى تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
اكسبته تلك المداخلة شعبية هائلة على شبكة التواصل الاجتماعى، وعلى صفحات الصحف السعودية بأقلام بعض كبار كتابها، قيل إنه لم يبق ولم يذر.
كان ذلك دليلا حاسما إضافيا على أن التطبيع لن يمر، وإذا مر لن يستقر.