بقلم: عبد الله السناوي
فى زحام الأولويات الضاغطة على إدارة الرئيس الأمريكى السادس والأربعين قد تتراجع أزمات الشرق الأوسط على غير ما هو معتاد من الإدارات السابقة.
لسنا على رأس الأولويات عندما يتسلم «جو بايدين» مقاليد السلطة يوم (20) يناير المقبل.
هناك ــ أولا ــ أوضاع انقسام حاد وأحوال تصدع فى المؤسسة الأمريكية، لا الرئيس الحالى اعترف بهزيمته ولا هو بوارد تسليم السلطة بسلاسة، ما العمل.. وكيف يمكن بأقل أضرار ممكنة عبور المرحلة الانتقالية المزعجة؟
هذه أولوية لا يمكن القفز فوق مطباتها دون صداع كبير يشل طاقة الإدارة المرتقبة على التفكير والنظر فى الملفات الخارجية قبل البت فى الاختلالات الداخلية.
هناك ــ ثانيا ــ أزمة جائحة «كورونا»، التى أفضت تداعياتها إلى تقويض فرص «دونالد ترامب» فى تجديد ولايته.
لم تكن مصادفة الشروع فى تشكيل لجنة استشارية طبية لإدارة أزمة «كورونا» قبل إعلان أية أسماء مرشحة لتولى المناصب الرئيسية فى الإدارة الجديدة.
هناك ــ ثالثا ــ ضرورات تحفيز الاقتصاد، كاختبار عاجل آخر بالنظر إلى أن الرئيس السابق تحسنت المؤشرات الاقتصادية فى عهده قبل أن تقوضها سوء إدارته لأزمة الجائحة.
هناك ــ رابعا ــ استعادة الدور الأمريكى كمركز قيادى فى التحالف الغربى، خاصة داخل حلف «الناتو»، الذى تصدعت الثقة فيه، وهذه أولوية تستدعى سد الفجوات السياسية مع الشركاء الأوروبيين بإعادة الاعتراف باتفاقية باريس للمناخ كما العودة إلى المنظمات الدولية التى انسحبت منها كمنظمة الصحة العالمية، لكن بعض التراجعات لن تكون سهلة كالاتفاقية النووية مع إيران، التى اخذت تتحسب مسبقا برفع سقف التفاوض.
وهناك ــ خامسا ــ النظر العاجل فى مستقبل الإمبراطورية الأمريكية، التى تلوح فى الأفق المضطرب احتمالات تراجع مكانتها فى نظام دولى جديد يولد من تحت أنقاض الجائحة، لصالح تصاعد نفوذ الصين بوزنها الاقتصادى وروسيا بوزنها الاستراتيجى.
يأتى بعد ذلك كله الشرق الأوسط بأزماته وصراعاته ما لم تفضى طوارئ الحوادث إلى انقلابات فى الأولويات على النحو الذى حدث بعد حادث الحادى عشر من سبتمبر فى إدارة «جورج دبليو بوش»، أو ما جرى بعد عواصف الربيع العربى على عهد «باراك أوباما».
الانطباعات المتسرعة غلبت النظر إلى «جو بايدن».
بأية نظرة موضوعية «بايدن» ليس ظلا لـ«أوباما».
النائب غير الرئيس، هذه طبائع بشر واختلاف أزمان.
هو نفسه أشار إلى ذلك المعنى فى مناظرته الثانية والأخيرة مع «ترامب».
بالتكوين الأساسى كانت معلومات «أوباما» عن الشرق الأوسط محدودة وخطابه تبشيرى، متعاطف مع العالم الإسلامى على خلفية جذوره العائلية دون أن يترجم تعاطفه فى سياسات ومواقف ملموسة ومؤثرة فى الصراع العربى الإسرائيلى.
«بايدن» على العكس فهو خبير ومطلع على ما كان يجرى فى الشرق الأوسط من موقعه على رأس لجنة الشئون الخارجية فى مجلس الشيوخ الأمريكى لسنوات طويلة استبقت توليه منصب نائب الرئيس، متعاطف مع الدولة العبرية ويرى نفسه صهيونيا، شأن قيادات عديدة فى الحزب الديمقراطى.
هناك فارق جوهرى آخر بين «ترامب» و«بايدن»، فى درجة الصهيونية التى ينتسبان إليها.
الأول ــ نسخة من صهيونية «بنيامين نتانياهو» وغلاة المستوطنين، والثانى ــ أقرب إلى صهيونية «شيمون بيريز» ومؤسسى الدولة العبرية.
بقدر اتساع نظرة «بايدن» الاستراتيجية فإنه أخطر من «ترامب» الأهوج.
كل ما أنجزه «ترامب» للدولة العبرية سوف يحفظه ويؤكد عليه دون تغييب للشريك الفلسطينى المفترض.
من المتوقع أن تعود إلى الواجهة أحاديث «حل الدولتين» و«تأجيل القضايا الخلافية إلى التفاوض تحت الرعاية الأمريكية» كأنها دوران فى المكان واستهلاك للوقت.
بقدر آخر سوف تتردد بصورة أكبر أحاديث الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان فى الغرف الدبلوماسية، وقد تحدث مناوشات وضغوطات مع حلفاء تقليديين للولايات المتحدة مثل مصر والسعودية وتركيا.
الإدارة الأمريكية الجديدة ليست فى وارد مراجعة علاقاتها الاستراتيجية مع الدول الثلاث، لكنها سوف توظف ملف الحريات وحقوق الإنسان لمقتضى إعادة ترتيب حسابات القوة فى الإقليم.
أرجو أن نراجع التجربة الأمريكية على عهد «أوباما» عندما هبت رياح التغيير على مصر فى يناير (2011).
مال «بايدن»، مع القيادات المخضرمة فى البيت الأبيض، لعدم إزاحة الرئيس المصرى «حسنى مبارك».. فيما اعتمد «أوباما»، مع مجموعة الشبان الملتفين حوله، خيار التغيير.
بعقلية براجماتية عمل الفريقان معا على توظيف الحوادث العاصفة لمقتضى المصالح والاستراتيجيات الأمريكية فى إعادة رسم خرائط الإقليم تفكيكا وتقسيما.
جرى الرهان على جماعة «الإخوان المسلمين» باعتبارها الأكثر تنظيما وحضورا فى الشارع والأكثر استعدادا بالوقت نفسه لإبرام تفاهمات تحفظ المصالح الأمريكية وتعترف بإسرائيل.
لا كانت إدارة «أوباما» إخوانية ولا كان نائبه «بايدن» عضوا فى التنظيم الدولى للإخوان!
إنها التصورات الاستراتيجية قبل وبعد كل شىء بعيدا عن أية سذاجات متداولة.
الظروف الآن اختلفت.
باليقين سوف تحدث بالضغوط مقاربات أمريكية جديدة لملف الحريات وحقوق الإنسان فى مصر وتركيا والسعودية مدفوعة بجماعات حقوقية ومراكز بحثية وأوساط أكاديمية غربية، لم يكن لها نفس التأثير على إدارة «ترامب»، التى لم يكن يعنيها ذلك الملف بأية درجة.
أفضل خيار مصرى ممكن لدرء الضغوط المنتظرة، تحسين الملف بفتح المجال العام أمام التنوع الطبيعى فى المجتمع والإفراج عن المحبوسين احتياطيا دون أن يكونوا قد تورطوا فى عنف وإرهاب.
بقدر تحسين ملف الحريات وحقوق الإنسان تكتسب مصر مناعة حقيقية توحد إرادتها العامة.
بالنظر إلى الدولتين الأخرتين، تركيا والسعودية، فإن المعادلات أكثر تعقيدا.
بالحسابات الاستراتيجية فإن كلتيهما حليف للولايات المتحدة لا يمكن الاستغناء عنه.
الأولى ــ بحكم أنها القوة العسكرية الثانية فى حلف «الناتو».
والثانية ــ بحكم موقعها الاستراتيجى فى منطقة الخليج وثرواتها البترولية.
المشكلة التركية تتعدى ما هو منسوب إلى الرئيس التركى «رجب طيب أردوغان» من تضييق على الحريات وشواهد على صفقات فساد جمعته مع الرئيس الأمريكى السابق إلى التغول بالسلاح فى الأزمات الليبية والسورية والعراقية والصراع على الغاز فى شرق المتوسط مع دول حليفة أخرى كمصر وفرنسا واليونان وقبرص.
إذا ما رفعت أمريكا غطاء الحماية عن التغول التركى فإن المعادلات سوف تختلف.
تحت الضغوط المحتملة قد تلوح تركيا بنقل تحالفاتها إلى موسكو، هذه ورقة ضغط أخيرة فى ألعاب القوة، إذا ما انحازت إدارة «بايدن» إلى المواقف الفرنسية كمدخل لتوحيد المعسكر الغربى مجددا.
والمشكلة السعودية تتجسد فى خشيتها من إعادة العمل بالاتفاقية النووية الإيرانية وارباك حساباتها الإقليمية، كما خشيتها من تهديد توريث العرش لولى العهد «محمد بن سلمان» إذا ما فتح «بايدن» مجددا ملف اغتيال «جمال خاشقجى» فى القنصلية السعودية باستنبول.
السيناريوهات والاحتمالات كلها واردة، لكنها مؤجلة مؤقتا تحت ضغط زحام الأولويات المزعجة.