بقلم: عبد الله السناوي
تحت وطأة تقادم السنين وآلام المرض المبرحة صارح بطل قصة «بهاء طاهر» الجديدة نفسه بأنه قد «شاخ فلا تكابر»، «عاند من تطيق له عنادا».
«ذلك الوخز الحاد فى الساق قرب الفخذين يأتى ثم يختفى، فى الحقيقية يأتى ثم يبقى، لكنه أحيانا ينساه، الآن صعب أن ينساه. ربما لأنه سار كثيرا كى يصل إلى هذا المكان. ذكريات يا فندم!».. «ابتسم فى سره مرة أخرى.. أى ذكريات يا أستاذ وأنت نفسك أصبحت ذكرى؟».
فى ذلك النص القصصى البديع شيء من تجربة الأديب نفسه مع المرض وآلامه، التى أبعدته لسنوات طويلة عن المحافل الثقافية، دون أن تكون تقريرا طبيا عن حالته الصحية.
بعد اثنتى عشرة سنة اعدنا قراءة «بهاء طاهر» من جديد بقصة قصيرة عن «الحب المختلس» وحيرة الإنسان أمام معنى حياته، ما هو حقيقى وراسخ فى الوجدان بالحنين وما هو عابر لا يستحق التوقف عنده بالتذكر.
«هل سيأتى وقت ينسى فيه كل شيء!؟ حتى نوال؟ فماذا يبقى الأفضل أن يرحل قبل ذلك».
تبدو قصته «نوال»، التى نشرت على صفحات جريدة «الشروق» قبل ايام، كما لو أنها مقاربة جديدة أكثر حزنا مما تبدى فى آخر قصصه: «لم أعرف أن الطواويس تطير»، التى نشرت عام (2009) على صفحات جريدة «العربى».
سألته: «هل نبرة اليأس من طبيعة الدراما أم تعبير عما يجيش بداخلك؟».. وأخذت أتلو على مسامعه المقطع الأخير: «نظرت نحو الطاووس المأسور، الذى كانت بعض ريشاته الملونة تبرز من ثقوب الشبكة وهو ينتفض، وقلت لنفسى وأنا أنصرف يا طائرى العجوز أشباه عوادينا». الكلمتان الأخيرتان لأمير الشعراء «أحمد شوقى»، أى أننا نشبه بعضنا الآخر.
قال: «النص عن المقاومة لا اليأس وأرجوك ألا تقلق».. ثم «لا تنس أن لا شيء يفوق جمال الطواويس غير قبح أصواتها».
ثنائية اليأس والمقاومة بدت أكثر حضورا فى «نوال»، حيث الحياة تكاد تتلخص فيما تبقت فى ذاكرته من مشاعر قديمة لا تغادره.
«كان دبيب النمل فى ساقيه يتحول بسرعة إلى لسع النحل. أراد أن يصرخ ولكنه همس وهو ينظر أمامه مخاطبا البحر:
ساعدنى يا صديقى. ساعدينى يا نوال.
ولكن دموعًا نزلت من عينيه ولم يعد يرى البحر.
أحنى رأسه وغمغم وهو يقبض على الحاجز ويتشبث به: «كله يهون».
إنه الألم الإنسانى، والذاكرة التى تعنى الحياة رغم قسوتها.
«نوال» فى توقيتها ورسائلها- رغم انها ليست جديدة- تعليق بلغة الأدب على ما صرح به قبل أيام الدكتور «صلاح فضل» رئيس مجمع اللغة العربية من أنه لم يتم ترشيح «بهاء طاهر» لـ«جائزة نوبل فى الآداب»؛ لأنه يعيش فى عزلة تامة، ولا يرد على أية اتصالات هاتفية.
لم يكن يصح أن يصدر مثل هذا التفسير عن ناقد أدبى كبير، فمثل هذه الجوائز تمنح بالجدارة الأدبية وحدها لا بشهادات طبية معتمدة!
«بهاء» لا يخفى أمراضه ولا يتستر على آلامه، لا تستهويه السياسة بمعناها الحزبى أو المباشر لكنه لا يتورع عن المشاركة فى أى عمل وطنى، ملتزما بفكرة جوهرية تسكنه عنوانها: «مسئولية المثقف».
هكذا مضى متكئا على عصاه إلى ميدان التحرير وشارك بحماس شاب فى جميع الفاعليات التى جرت قبل يناير وبعدها من «كفاية» إلى اعتصام المثقفين فى وزارة الثقافة الذى كان رمزه الأول ضد «أخونة» الثقافة المصرية.
من فرط التواضع فى كلماته وتصرفاته يلحُّ عليك السؤال مرة بعد أخرى: هل يدرك هذا الرجل أن قامته لا تضاهيها قامة أخرى لأى أديب عربى آخر على قيد الحياة؟
يتحدث بصوت يكاد لا يسمع، يستملح السخريات المصرية ويرويها وهو يغالب ضحكه حتى فى شدة مرضه، يكتب بقلم رصاص رواياته وقصصه القصيرة قبل أن يعيد كتابتها من جديد مرة بعد أخرى حتى يستريح لما كتب ويرى أنه يستحق أن يطالعه القارئ ثم لا يظهر عليه أنه قد أودع لتوه المكتبة العربية شيئا يستحق أن ينفش ريشه كطاووس.
لا يخفى تأثره بنهج اثنين من أساتذته: «نجيب محفوظ» و«يحيى حقى»، فالأول وهو سيد الرواية العربية يمشى فى الشوارع ويجلس على المقاهى ويحتضن شباب الأدباء، يسمع بأكثر مما يتكلم بينما كل كلمة منه تحفظها ذاكرة مستمعيه وتخلد فى المرويات الشفاهية.. والثانى هو واحد من أهم الأدباء المصريين فى القرن العشرين، لكنه لم يكن مغرما بالأضواء ويفضل أن يكتب فى المجلات الأقل انتشارا إذا ما كانت أكثر جدية.
استوعب الدرس مبكرا من أستاذيه والدرس وافق طبيعته المتأملة التى تميل لطلب السلام النفسى.
غير أن ذلك كله لا يعنى أن من ساروا على هذا الدرب لا يعرفون قدر أنفسهم أو قيمة ما أسهموا به فى تاريخ الأدب العربى الحديث.
فى عالمه الروائى انعكاس لعالمه الحقيقى، فلسفته فى الحياة وأحلامه المجهضة وتجاربه فى المنفى.
قضيته الأساسية: أزمة الثقافة والمثقفين.
الأدب لا يكون عظيما إلا بقدر أن يصدر من مواهب تعرف كيف تمزج الخاص والعام، تلتقط ما هو عميق بين ركام التفاصيل الصغيرة بحثا عن معنى أو قيمة أو قضية.
كما فى الحياة تماما فإن أعماله الروائية لا تثرثر ولا تطيل بغير ضرورة فنية، وعباراته ذات إيقاع شعرى، لأنه هو نفسه شاعر كامن يحفظ قصائد «المتنبى» و«شوقى» وصديقه القديم «صلاح عبدالصبور» وتطربه ملحميات صديق آخر هو «عبدالرحمن الأبنودى».
روايته «واحة الغروب» تعكس شواغله الفكرية والتاريخية بصورة مثيرة، فقد بنى الرواية كلها على تفجير معبد تاريخى قديم فى الواحات بعد الثورة العرابية بسنوات دون أية معلومات إضافية، كان يمكنه أن يوظف الواقعة دراميا على أنها عمل إرهابى، لكنه كأديب حقيقى وضعها فى سياق آخر عن خيانة المثقف بعد هزيمة الثورة، فى هدم المعبد تعبير عن الضجر من عبء التاريخ وخيانات المثقفين.
لم تكن الشخصيات الأوروبية التى احتوتها أغلب رواياته، مقحمة على أى سياق درامى، كلها رسمت بصورة بالغة البساطة والعمق تختلف جذريا عن أية طريقة انتهجها أسلافه من الأدباء المصريين والعرب كـ«عصفور من الشرق» لـ«توفيق الحكيم» و«قنديل أم هاشم» لـ«يحيى حقي» و«موسم الهجرة إلى الشمال» لـ«الطيب صالح» و«الحى اللاتينى» لـ«سهيل إدريس».
رغم محورية أزمات المثقفين فى مجمل أعماله إلا أنها لا تلخص عوالمه، وأى أديب كبير لا تلخصه قضية واحدة ولا يحتويه عالم واحد، ولا تكفيه زيارة واحدة إلى إرثه الأدبى الرفيع.