بقلم: عبد الله السناوي
كان تخلى «حسنى مبارك» مضطرا عن سلطة أمسك بمقاديرها لثلاثين سنة متصلة حدثا استثنائيا فى التاريخ المصرى الحديث.
لم يكن معقولا محاكمته بما جرى فقط فى آخر ثمانية عشر يوما من حكمه.
تغييب المساءلة السياسية أسس لاختطاف ثورة «يناير»، التى هبت رياحها قبل عشر سنوات بالضبط.
رغم الأضواء التى حاصرت الرئيس الأسبق فإن مساحة الظلال تكاد تخفى قصة صعوده الحقيقية، أسباب اختياره نائبا منتصف سبعينيات القرن الماضى وحقيقة الأدوار التى لعبها تحت عباءة سلفه «أنور السادات»، التى صاغت المسار العام لسياساته وخياراته طوال سنوات حكمه.
لم يكن النائب سرا مغلقا فى الولايات المتحدة، ولا لدى جهات غربية عديدة تتابع ما يحدث فى مصر، ولا فى إسرائيل نفسها.
كانوا يعرفون عنه بأكثر مما يعرف عنه فى مصر، وكانوا يفضلونه عن الرجل الذى وقع اتفاقية السلام المصرية ــ الإسرائيلية عام (1979).
ما هو معلن فوق السطح غير ما هو غائر تحته، وقد كان ما نشرته صحيفة «الجيروزاليم بوست» الإسرائيلية صباح الاثنين (٥) يناير (١٩٨١) مفاجئا وكاشفا فى وقته وحينه لمدى الرهان الإسرائيلى على صعود النائب إلى موقع الرجل الأول.
صودرت أعداد الصحيفة الإسرائيلية، ونشرت وكالة «أنباء الشرق الأوسط» برقية موجزة تصف المعلومات بـ«الادعاءات والأكاذيب» دون أن تشير إلى طبيعة مادتها، وجرى منع دخول أية أعداد أخرى منها، أو منح أى من محرريها تأشيرة دخول.
فى اليوم التالى نشرت «الجيروزاليم بوست» تقريرا ثانيا لنفس المحرر فى نفس الموضوع أعقبه تقرير ثالث بعد يوم آخر يناقش خلافات التكتيك بين «السادات» و«مبارك» فى قضية السلام والتطبيع مع إسرائيل.
استمعت إلى القصة المثيرة من «منصور حسن» وزير الثقافة والإعلام فى ذلك الوقت ذات لقاء ضمنا فى بيته على نيل جزيرة الزمالك.
لم تكن تلك المقالات على الموقع الإلكترونى لـ«الجيروزاليم بوست»، فتاريخ نشرها يسبق إنشاء الموقع بسنوات طويلة.
بمعاونة صحفيين فلسطينيين خلف الجدار جرى الوصول إليها من أرشيف الصحيفة.
بدا مفاجئا بتوقيته ونصه ما نشرته الصحيفة الإسرائيلية من تقارير تتحدث عن تصاعد نفوذ النائب «حسنى مبارك» واحتدام المعارك المكتومة على المناصب الرئيسية بين مجموعتى الرئيس والنائب، وأن «السادات» قد يحبط رهانات نائبه على خلافته.
ناقضت صورة النائب فى أهم صحيفة إسرائيلية تكتب بالإنجليزية عما هى عليه فى مصر حيث كان ينظر إليه باستخفاف مفرط، فهو رجل قوى ينازع على السلطة، له موالون متمركزون فى مفاصلها، وتقف على الجانب الآخر من الصراع حلقة ضيقة حول الرئيس تضم أربعة شخصيات: حرمه «جيهان السادات» وصهراه رجل المقاولات الشهير «عثمان أحمد عثمان» ورئيس مجلس الشعب «سيد مرعى» ورئيس الوزراء الدكتور «مصطفى خليل».
نسب التقرير الإسرائيلى إلى «همت مصطفى» رئيسة التليفزيون المقربة من «السادات» أنها قالت فى جلساتها الخاصة إن «من سوف يشملهم التغيير فى التشكيل الوزارى المقبل يشعرون كأنه يجرى اصطيادهم»، قاصدة إحباط رهانات «مبارك» وتقليص نفوذه فى السلطة هو ورجاله، وربما خسارة مقعده كنائب.
التوقعات التى ذهبت إليها الصحيفة لم تحدث، فلا تولى السفير المصرى فى واشنطن «أشرف غربال» حقيبة الخارجية، ولا أطيح بـ«النبوى اسماعيل» من وزارة الداخلية، بل بقى على مقعده إلى ما بعد حادث المنصة.
الجو العام للتقارير الإسرائيلية بمبالغاتها يوحى بأنها مسربة ومقصود خروجها على النحو الذى كتبت به.
بإلحاح ظاهر تكررت عبارة «مبارك ورجاله».
قيل إن هناك عملية إزاحة ممنهجة لأنصار «السادات» من الوظائف الرئاسية.
بعد كل إزاحة يحدث إلغاء للمنصب نفسه حتى لم يعد حول «السادات» سوى سكرتيره الشخصى «فوزى عبدالحافظ» والمدير الإدارى «محمود عبدالناصر».
جرت إزاحة المشير «محمد عبدالغنى الجمسى» وزير الدفاع السابق عن منصب المستشار العسكرى وألغى المنصب بعده.
جرى إلغاء منصب رئيس مكتب الرئيس، الذى كان يشغله «حسن كامل»، كما ألغى منصب سكرتير الرئيس للمعلومات، الذى كان يتولاه «أشرف مروان»، وكان مختصا ــ حسب توصيف التقرير الإسرائيلى ــ باستشارات حل الأزمات.
ألغى منصب المتحدث الرئاسى الذى كان يشغله «سعد زغلول نصار»، وأزيح شقيقه «كمال نصار» عن وزارة الإنتاج الحربى.
إلى أى حد كان ذلك مقصودا وممنهجا؟!
ما مدى صدقية ما نسبته الصحيفة الإسرائيلية إلى النائب «مبارك» من قدرات ومواهب على التخطيط والمناورة فى صراعات السلطة.. أم أن الكلام كله كان يستهدف «تلميع» النائب لتولى أدوار مستقبلية؟
حسب الرواية الإسرائيلية كانت هناك أربعة دوافع للقلق داخل الحلقة المحيطة بـ«السادات».
الأول ــ خشية الاستبعاد مستقبلا من معادلات القوة والنفوذ إذا ما صعد «مبارك» للسلطة العليا.
الثانى ــ خشية أن يكسب إلى صفه مجموعات المعارضة، التى لا تريد التصالح مع «السادات».
الثالث ــ تحذير «السادات» نفسه بتسريب ما هو مكتوم فى الكواليس إلى العلن الإعلامى من خطورة الصراع السياسى الدائر.
كان ذلك تلميحا إلى أن المجموعة المحيطة بـ«السادات» هى مصدر التسريب الرئيسى لما ورد فى الصحيفة الإسرائيلية من معلومات أثارت غضبه.
الرابع ــ توجيه رسالة إلى أمريكا وإسرائيل لمساعدة «السادات» على حماية سياسات السلام بدلا من تعريضها لمسارات غير متوقعة.
كان ذلك رهانا خاطئا، فقد صيغت التقارير على نحو يرجح أنها اخضعت لمعالجات استخباراتية انحازت إلى النائب وراهنت عليه باعتباره خيارا أفضل من «السادات» لمستقبل المعاهدة المصرية الإسرائيلية.
أخطر ما نشر فى تلك التقارير ما نسب إلى الفريق «سعيد الماحى» رئيس المخابرات المصرية فى ذلك الوقت من أنه نصح «السادات» بـ«ضرورة تنظيف المنزل»، فـ«البلد لا يحتمل صراعا سياسيا ولا صراعا على السلطة»، وأنه حذر الرئيس من أن السفارة الأمريكية بالقاهرة تبدى اهتماما كبيرا بصراعات السلطة، وأن الأمريكيين يفضلون الدفع قدما بالنائب وتحسين صورته وتلميعه، وأن هناك تقريرا جديدا للاستخبارات الأمريكية يتوقع أن يغادر «السادات» السلطة بعد عشر سنوات من توليها، أى فى أكتوبر المقبل، وهو ما حدث بالفعل.
التقرير الاستخباراتى الأمريكى، حسب الصحيفة الإسرائيلية، فضل أن يعمل «مبارك» فور تعيينه رئيسا على الدفع بفريقه الخاص إلى صدارة المشهد بعيدا عن وجوه «السادات» المستهلكة الذين تلاحق بعضهم اتهامات تربح وفساد.
كانت تلك الإشارة داعيا إضافيا لغضب «السادات»، لكنها تحولت إلى حقيقة بعد فترة وجيزة من اغتياله بمحاكمات شملت شقيقه «عصمت السادات» ورجل الأعمال السكندرى «رشاد عثمان».
بأية قراءة متأملة فى فحوى التقارير الإسرائيلية، التى استبقت اغتيال «السادات» بعشرة أشهر فإنها لامست بعض ما هو غامض فى قصة صعود «مبارك».
لاحظت الصحيفة الإسرائيلية عودة جديدة لسياسيين كانوا على خلاف مع «السادات» بينهم اللواء «حافظ اسماعيل» مستشار الأمن القومى أثناء حرب أكتوبر، الذى وصفته بـ«هنرى كيسنجر مصر».
ألمحت أنه يفكر فى تعيين نائب جديد، لم تبين إذا ما كان هو «حافظ اسماعيل» نفسه.
كان لافتا ومثيرا فى التقارير الإسرائيلية، التى نشرت قبل اغتيال «السادات» مباشرة، ما حاولت أن تستشرفه فيما لو آلت السلطة العليا إلى النائب «مبارك».
كانت إجابتها أن الفريقين المتنازعين على السلطة، من حول الرئيس ونائبه، أو فى مواجهة الرئيس نفسه، متفقان على أن مصر يجب أن تحافظ على علاقاتها مع الولايات المتحدة، وأن «مبارك» قد يفضل أيضا إعادة إحياء الصلات مع موسكو.
بشأن التطبيع مع إسرائيل فالاتفاق واضح بين الفريقين فى الاستراتيجية والخلاف ماثل فى التكتيك.
«السادات» ومساعدوه يرون أن التطبيع يقتضى بالمقام الأول حلا للقضية الفلسطينية، فيما يحبذ «مبارك» على الجانب الآخر المضى قدما فى التطبيع باعتباره جائزة تغرى إسرائيل بالتنازلات.
على الأرجح فإنه قد جرى استطلاع آراء النائب وتصوراته أثناء زياراته الخارجية من جهات سياسية ودبلوماسية واستخباراتية استدعت ذلك التوقع، لكنه عندما استلم السلطة لم يستطع أن يمضى فى خياره بسبب قوة الرفض الشعبى للتطبيع.
إذا ما خضعت قصة «مبارك» للاستقصاء والتدقيق فإننا أمام رجل نكاد نجهله.
من حق مصر أن تنظر فى تاريخها الخفى لتعرف ما جرى لها وبها على مدى عقود.