توقيت القاهرة المحلي 21:08:17 آخر تحديث
  مصر اليوم -

عندما ولدت دولة كبرى هنا

  مصر اليوم -

عندما ولدت دولة كبرى هنا

بقلم: عبد الله السناوي

«لقد ولدت دولة كبرى فى الشرق».
كان ذلك توصيفا استراتيجيا للجغرافيا السياسية الجديدة فى المنطقة أطلقه «جمال عبدالناصر» عقب إعلان دولة الوحدة المصرية السورية يوم (22) فبراير (1958).
المشاعر تدفقت كطوفان والأحلام لامست السماء فى بناء دولة قوية وموحدة «تصون ولا تهدد تحمى ولا تبدد تصادق من يصادقها وتعادى من يعاديها».
لم يكن الوصول إلى هذا اليوم من أعمال المصادفات بقدر ما كان تعبيرا عن حقائق جديدة تتحرك، طموحات وصلت ذروتها، وصراعات تصاعدت فى المنطقة.
لا موضع ـ الآن ـ لحديث عن أية وحدة عربية وأقصى ما نتطلع إليه تجنب سيناريوهات التقسيم الماثلة فى سوريا وبلدان أخرى.
بين حلم الوحدة وكابوس التقسيم قصة طويلة وأليمة أهدرت فيها كل القضايا، وارتكبت كل الخطايا واستبيحت كل المحرمات.
بعد حرب السويس عام (١٩٥٦) وفشل إخضاع مصر وضعت خطة أطلق عليها «استراجل».
كانت تقضى بأن إسقاط سوريا يفضى مباشرة إلى عزل مصر وبعثرة العالم العربى.
كانت سوريا مهددة فى صميم وحدتها الداخلية ومكشوفة لتدخلات إقليمية ودولية، ومشروعات انقلابات عسكرية، أو غزو من الخارج، يقوده رئيس الوزراء العراقى «نورى السعيد»، الرجل الذى ارتبط أكثر من غيره بسياسة الأحلاف العسكرية فى المنطقة.
بحكم موقعها الجغرافى لم يكن ممكنا لسوريا أن تنغلق على نفسها تحت أى ادعاء، أو أن يكون لها مستقبل خارج عالمها العربى بأية ذريعة.
كانت الوحدة المصرية ــ السورية خطوة متقدمة أكدت قدرة العالم العربى على ملء الفراغ بنفسه بعد انهيار الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية بأثر نتائج حرب السويس دون حاجة إلى أحلاف تخضع لحسابات استراتيجية أمريكية ضد مصالحه ومستقبله.
كما كانت تطويرا لنتائج حرب السويس، التى ألهمت حركات التحرر الوطنى فى العالم الثالث ـ كأن فوران غضب على الإرث الاستعمارى اندلع فيه.
فى ذلك اليوم الفريد تبدت حالة سياسية ووجدانية قد يساعد التوقف عندها على تلمس بعض ما يجرى الآن تحت السطح العربى الساكن، أو المشتعل بالنار، من خلجات نفوس وأحلام محبطة.
إنها أمة واحدة كاشفت نفسها فى لحظة أمل أنها تستطيع أن تصنع التاريخ وتبنى دولة منيعة قادرة على مواجهة التحديات والمخاطر، وأن تأخذ أحلامها إلى أرض الواقع.
بعد إعلان الوحدة كانت دمشق تنتظر وفدا مصريا رفيعا قادما إليها.
عندما هبطت الطائرة المصرية فى مطار دمشق كانت المفاجأة صاعقة، فالذى هبط منها هو «جمال عبدالناصر» نفسه دون إخطار مسبق.
بدأ الزحف العظيم من المدن والقرى السورية لترى بالعين رئيس الجمهورية العربية المتحدة.
تدفقت على دمشق كتل شعبية أخرى عبر الحدود العربية المجاورة ـ خاصة من لبنان.
حملت الحشود المتدافعة سيارة «عبدالناصر» على الأكتاف فى مشهد تراجيدى تاريخى يكاد لا يصدق.
سهرت حتى الفجر بالمشاعل أمام قصر الضيافة.
من وقت لآخر ينادونه بلا كلل: «طل علينا يا جمال».
فى فكرهم ووجدانهم تأميم قناة السويس وإحباط العدوان على مصر ومعارك التحرر الوطنى ومحاربة الأحلاف الاستعمارية وتنويع مصادر السلاح والانحياز إلى الحق الفلسطينى ومبادئ باندونج.
شيء آخر عميق ومتوارث دعاهم إلى استدعاء الأمل بالهمة.
المعانى أهم من الرجال، والقضايا الكبرى تلهم الناس العاديين أنهم يمكن أن يصنعوا تاريخهم بأنفسهم، وأن يوقفوا أى امتداد جديد لقرون من الإذلال والتهميش.
رغم الخطط والمؤامرات على الوحدة المصرية ــ السورية، وكلها ثابتة فى وثائق وشهادات واعترافات، إلا أنها سقطت من داخلها قبل أى فعل خارجى، وتسببت أخطاء جوهرية بصميم التجربة على تسهيل الانقلاب على الوحدة فى (28) سبتمبر (1961)، نفس اليوم الذى رحل فيه «عبدالناصر» بعد تسع سنوات.
على مدى عقود طويلة نشرت آلاف الدراسات عن الوحدة وأسباب الانفصال.
قالوا إن الوحدة «وهم ناصرى»، وأن مصر فرعونية، أو شرق أوسطية، أو أى شيء آخر غير أن تكون عربية، لكن الحقائق تغلب باستمرار.
فـ«مصر» ــ بالثقافة والهوية والجغرافيا والتاريخ ــ مشدودة إلى محيطها العربى، المصائر مشتركة، والقضايا واحدة وعندما تنكرت مصر لأدوارها جرى ما جرى لها من تهميش وتراجع فى المكانة.
بعد الانفصال بأسبوع قال «عبدالناصر» فى خطاب بثته الإذاعة المصرية، كأنه يقرأ طالع أيام لم تأتِ بعد: «إن الوحدة الوطنية فى الوطن السورى تحتل المكانة الأولى.. إن قوة سوريا قوة للأمة العربية وعزة سوريا عزة للمستقبل العربى والوحدة الوطنية فى سوريا دعامة للوحدة العربية وأسبابها الحقيقية».
وكان مما قال: «ليس مهما أن تبقى الوحدة، المهم أن تبقى سوريا».
فى ذكرى الوحدة الأسئلة الكبرى تطرح نفسها: لماذا انكسر العالم العربى، وفقد ثقته فى نفسه ومستقبله، بعد أن حلقت أحلامه فى عنان السماء؟.. كيف وصلنا إلى الكابوس؟.. ثم إلى أين المصير؟
هناك مجموعتان من الإجابات.
الأولى ـ تدور حول الصراع على المنطقة ومستقبلها، فمشروع الوحدة موضوع صراع ضارٍ، وقد ناهضته قوى دولية وإقليمية ذهبت إلى استخدام السلاح والتآمر، وهذا ثابت بعشرات الوثائق.
والثانية ـ تعود إلى ثغرات جوهرية فى تجربة الوحدة المصرية ــ السورية، التى مكنت من الانقضاض عليها وتصفيتها بالانفصال بعد ثلاث سنوات ونصف السنة، وهذه خضعت لمراجعات عديدة، لكنها لم تستقر على أية رؤية تؤسس لتجارب أخرى أكثر نضجا وقدرة على البقاء حتى داهمتنا بعد عقود احتمالات تقسيم سوريا والعراق وليبيا واليمن ودول عربية أخرى تطلعت ذات يوم للوحدة بينها.
لم تكن تجربة الوحدة رحلة نيلية ذات صيف، بقدر ما كانت مواجهات مفتوحة امتدت بعمق الخريطة العربية، وقد ارتبطت بالتحرر من الاستعمار والتبعية واستقلال القرار الوطنى.
لم تخترع ثورة «يوليو» المشروع العروبى، لكنها جسدته أملا حيا على الأرض بسياسات تبنتها ومعارك خاضتها، نجحت وأخفقت، وعبرت فى الأحوال كلها عن حقيقة لا يمكن تجاهلها أن قوة مصر فى عالمها العربى والخروج منه يفضى إلى عزلتها وتقويض ثقتها فى نفسها، كما يفضى إلى إضعاف العالم العربى واستباحته.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عندما ولدت دولة كبرى هنا عندما ولدت دولة كبرى هنا



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 10:46 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الأربعاء 18 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

GMT 19:37 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مروة صبري توجّه رسالة لشيرين عبد الوهاب بعد ابتزاز ابنتها

GMT 23:53 2013 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إكسسوارات تضفي أناقة وتميُّزًا على مظهرك

GMT 11:54 2024 الإثنين ,06 أيار / مايو

أحذية لا غنى عنها في موسم هذا الصيف

GMT 04:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

السجن 50 عاما لامرأة أجبرت 3 أطفال على العيش مع جثة في أميركا

GMT 13:32 2016 الجمعة ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

أرجو الإطمئنان بأن الآتي أفضل
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon