بقلم: عبد الله السناوي
كأننا أمام مشاهد مقتطعة من مسرح اللا معقول.
مصالح وتحالفات واستراتيجيات تتقاطع باسم التطبيع والسلام وأعمال عنف واغتيال وتصعيد على الحافة كحرب محتملة.
التطبيع والحرب فى نفس واحد، كلاهما يلازم الآخر ويفسر أهدافه ودواعيه.
كان التطور الأكثر خطورة فى تلك المشاهد اغتيال العالم النووى الإيرانى «محسن فخرى زادة» بعملية استخباراتية بالقرب من طهران.
لم تكن أول محاولة اغتيال لـ«الأب الروحى» للمشروع النووى الإيرانى، ولا كان هو أول عالم تستهدف حياته.
منذ اغتيال العالمة المصرية «سميرة موسى» فى أغسطس (1952) توالت الاغتيالات المنهجية للعلماء العرب، كلما بدا أن هناك تراكما واختراقا علميا يحدث.
هكذا أمكن الوصول إلى الدكتور «سعيد السيد بدير» والدكتور «يحيى المشد» وقائمة طويلة من العلماء البارزين من بين الثغرات الأمنية.
لوقت طويل نسبيا استهدف المشروع النووى العراقى باغتيال العلماء واحدا تلو آخر.
إيران الآن فى مركز الاستهداف بقدر ما حازته من خبرات وراكمته من اختراقات فى مشروعها النووى.
هذا نوع آخر من التطبيع، التطبيع بالقتل حتى لا تمتلك أية دولة فى الإقليم أى قدر من التوازن مع الترسانة النووية الإسرائيلية.
«محسن فخرى زادة.. تذكروا هذا الاسم».
كان ذلك تلويحا بالاستهداف أطلقه قبل شهور قليلة فى مؤتمر صحفى رئيس الوزراء الإسرائيلى «بنيامين نتنياهو» فى لحظة انتشاء بالتوصل الاستخباراتى إلى ما قال إنه «الأرشيف النووى الإيرانى».
لا يوجد ما يثبت أن الإسرائيليين توصلوا فعلا إلى ذلك «الأرشيف السرى»، غير أن المعلومات التى توافرت عن العقل المدبر للمشروع النووى الإيرانى استخدمت فى النيل من حياته.
من ناحية رمزية فإن الوصول بالاغتيال إلى العالم الإيرانى الأبرز يضاهى اغتيال اللواء «قاسم سليمانى» قائد فيلق القدس بالقرب من مطار بغداد مطلع عام (2020)،
ضربتان منهجيتان فى عام واحد استهدفتا المشروعين السياسى والنووى الإيرانيين، الأول بالإجهاض، والثانى بالتعطيل.
متى وأين وكيف سوف ترد إيران؟
هذا هو السؤال الرئيسى، الذى يطرح نفسه على التفكير السياسى الاستراتيجى فى إيران وخارجها.
بصيغ مختلفة يؤكد القادة العسكريون الإيرانيون أن «الجريمة لن تمر دون عقاب»، البرلمانيون يتشددون فيما تميل السلطة التنفيذية إلى ما تسميه «الصبر الاستراتيجى» حتى لا تقع إيران فى «المصيدة» ــ بتعبير الرئيس «حسن روحانى».
الخيارات ضيقة ولكل خيار حساباته وتكاليفه.
إذا لم يكن هناك رد يوازن ضربة الاغتيال وأثارها فإن هيبة إيران قد تتضرر فى إقليمها.
وإذا ما تورطت بالردود المتسرعة فإنها قد تجد نفسها داخلة فى إرباكات تحقق أهداف خصومها وتخصم من أية فرص متاحة أمامها لإعادة التمركز فى لحظة انتقال سلطة داخل البيت الأبيض الأمريكى.
أهم الفرص المتاحة إعادة الاتفاقية النووية، التى كان قد ألغاها الرئيس الأمريكى المنتهية ولايته «دونالد ترامب» وإنهاء العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.
بالتعريف فإن حادث الاغتيال إرهاب دولة وخرق للقانون الدولى، لكنه يستند على غطاء أمريكى مؤكد من ساكن البيت الأبيض، الذى يغادره فى (20) يناير المقبل.
تباهت إسرائيل بعملية الاغتيال دون أن تؤكد مسئوليتها.
تقول ولا تقول، توحى ولا تصرح.
فى ألعاب النار تتحسب إسرائيل من ردة الفعل الإيرانية وتذهب توقعاتها، حسب ما هو منشور فى صحافتها، إلى عدة سيناريوهات، أهمها الهجوم المسلح على سفاراتها فى الخارج، أو إطلاق صواريخ على أهداف حيوية داخلها.
يستلفت الانتباه ما حاولته الحكومة الإسرائيلية من الزج بدولتين عربيتين فى الملف الملغوم بالمخاطر والانفجارات المحتملة عندما دعت مواطنيها لعدم زيارة الإمارات والبحرين دون سبب مفهوم، فالإسرائيليون متواجدون فى أماكن عديدة أخرى، والوصول إليهم ليس مستعصيا.
لماذا التركيز على هاتين الدولتين دون غيرهما؟
ولماذا الربط بين التطبيع والنار؟
ربما يكون مقصودا الضغط على الأعصاب حتى تمضى وتيرة التطبيع إلى مستويات لم تكن متصورة بأية حسابات استراتيجية سابقة.
هذه فرضية أولى.
الفرضية الثانية، توسيع نطاق أية مواجهات مسلحة محتملة، إذا أفلتت عن أى قيد لتشمل دول الخليج حيث المصادر النفطية، التى لا يستغنى العالم عنها، دون أية مراعاة لأمن الخليج واستقراره ومستقبله.
بأية قراءة موضوعية لموازين السلاح وحقائق الجغرافيا السياسية فإن إسرائيل ليس بمقدورها حماية الخليج، مهما كانت الادعاءات والمزاعم.
إنها حروب التوريط فى ألعاب النار دون مصلحة، أو قضية.
بحسابات استراتيجية موازبة، فإن هناك معلومات مؤكدة، وفق موقع «المونيتور» الأمريكى، عن اتصالات سرية يجريها رئيس الاستخبارات التركية مع مسئولين إسرائيليين لإعادة ضخ دماء جديدة فى العلاقات بينهما، ترفع مستوى التمثيل الدبلوماسى وتنهى حالة التجاذب والتوتر.
إنه تطبيع استباقى خشية أية ضغوط قد تتعرض لها أنقرة من الإدارة الأمريكية المقبلة فى ملفى الحريات العامة والنزاعات الإقليمية.
اللعبة نفسها تتكرر بإعادة التعاون الأمنى بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل دون أن يصدر عن الأخيرة أى تنازل، أو أى استعداد للاعتراف بأى حق فلسطينى.
توتير الأجواء فى الإقليم يرادف بصورة أو أخرى تحركات التطبيع المتسارعة.
بالتوقيت حاول رئيس الوزراء الإسرائيلى «نتانياهو» توظيف الحوادث المتعاقبة لتجاوز أزمته الداخلية المتفاقمة، التى تؤذن بانتخابات جديدة محتملة للكنيست الإسرائيلى، الرابعة فى غضون عامين، مصورا نفسه كرجل أمكنه بدعم أمريكى مفتوح من الرئيس المنتهية ولايته أن يحصد اتفاقيات تطبيع مع عدد من الدول العربية وأخرى فى الطريق، دون تنازل واحد ويغتال أهم رمز نووى إيرانى دون عقاب يستحقه.
قد كان تصريح وزير الخارجية الأمريكى «مايك بومبيو» محملا بالمعانى والرسائل، فـ«إسرائيل طرف جوهرى فى أية سياسة يقصد بها تطويق إيران ومواجهتها».
فى الوقت المستقطع بين إداراتين، إدارة تغرب بعد خسارتها الانتخابات الرئاسية وإدارة تتأهب لتولى السلطة، يحاول رئيس الوزراء الإسرائيلى «نتانياهو» الحصول المجانى على جوائز عديدة أخرى.
مرة بدفع الإدارة الغاربة إلى التحرك بكثافة فى الإقليم بزيارتى وزير الخارجية «بومبيو» وصهر «ترامب» «جاريد كوشنر» باسم السلام والتطبيع وردم الفجوات بين الدول الخليجية دون أن تغيب رائحة البارود عن المكان.
ومرة بخلق العوائق أمام الإدارة المقبلة لتعطيل أية احتمالات لعودة الاتفاقية النووية وإنهاء العقوبات على إيران، أو على الأقل استبعاد تلك الاحتمالات لأطول فترة ممكنة تنصب إسرائيل خلالها حامية للمنطقة بالتطبيع المسموم، الذى لا يمكن له أن يستمر إذا ما توافرت إرادة حقيقية على مقاومته بالعمل الشعبى.