بقلم: عبد الله السناوي
لم يكن ممكنا لأحد من صناع السينما فى هوليوود أن يخطر بباله سيناريو مشابه لما حدث بالفعل فى الكابيتول، مركز الديمقراطية الأمريكية ورمز مؤسستها، من حوادث اقتحام وأعمال عنف وتخريب لمنع تصديق مجلسى الكونجرس على انتخاب رئيس جديد بتحريض من رئيس انتهت ولايته ولا يريد أن يغادر مقعده.
بدت الديمقراطية الأمريكية «هشة» ــ بتعبير الرئيس الديمقراطى المنتخب «جو بايدن»، والولايات المتحدة كإحدى «جمهوريات الموز» ــ بتعبير آخر للرئيس الجمهورى الأسبق «جورج دبليو بوش».
أسوأ ادعاء ممكن أن صدمة الكابيتول توقفت بالسيطرة الأمنية على المكان والتبارى فى إدانة تلك الجريمة الشنيعة والمضى قدما فى إجراءات التصديق على انتخاب «جو بايدن» رئيسا جديدا للبلاد.
فى لحظة واحدة تجلت نزعتان متناقضتان.
أولاهما، نعت بالشماتة الديمقراطية الأمريكية، كما لو أنها استحالت إلى دولة من العالم الثالث لم يعد من حقها إعطاء دروس للآخرين!
وثانيتهما، بالغت بالادعاء فى إثبات قوة المؤسسة الأمريكية وقدرتها على مواجهة تفلتات رئيس فقد عقله عند لحظة ترك السلطة.
فى النزعتين شىء من التلخيص المخل لحقيقة ما يحدث وتداعياته المحتملة، التى تتجاوز الولايات المتحدة إلى العالم بأسره، الذى تابع مصدوما مشاهد اقتحام الكابيتول.
فى مثل هذه الحوادث المشبعة بالدلالات والرموز والرسائل لا يمكن القفز بالأهواء إلى النتائج الأخيرة.
لم يكن ممكنا أن يخطر ببال أحد يوم (11) سبتمبر (2001) عند ضرب برجى التجارة العالمى فى قلب نيويورك، رمز القوة الإمبراطورية الاقتصادية، أن تداعياته سوف تصل إلى الإقليم هنا، تحتل أفغانستان ثم العراق، ويضرب العالم العربى فى صميم وجوده، وتنشأ استراتيجيات تعمل على تقسيمه عرقيا ومذهبيا.
الحادثتان، ضرب برجى التجارة العالمى، واقتحام الكابتيول، لهما أثر رمزى واحد من حيث النيل من الصورة الإمبراطورية للولايات المتحدة.
عند أى حدث مدو من ذلك الحجم تأخذ التداعيات وقتها حتى تستبين كامل تفاعلاتها.
لم يتصور أحد عند سقوط جدار برلين خريف (1989) أن تداعياته سوف تذهب بعيدا إلى تفكيك الاتحاد السوفييتى نفسه، القوة العظمى الثانية فى عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتفكيك المنظومة الاشتراكية كلها، وحل حلف «وارسو» الجناح العسكرى، الذى كان يقابل حلف «الناتو» على الجانب الآخر من الصراع الدولى فى زمن الحرب الباردة.
فى ذلك الوقت طرح سؤال: هل تلقى الولايات المتحدة الأمريكية مصيرا مماثلا؟
بعد وقت آخر طرأ تعبير: «الولايات المنقسمة الأمريكية» عند تفاقم أزماتها الداخلية على سطح الحوادث.
ثم طرأ سيناريو «الحرب الأهلية الثانية» فى كتابات أمريكية عديدة ــ «توماس فريدمان» مثالا.
السيناريو محتمل، لكن أسبابه لا تعود إلى «ترامب» وحده.
إذا ما مضى الانقسام الداخلى إلى آخر مداه ولم تنجح المؤسسة الأمريكية فى تطويقه بإجراءات تنقل البلد كله إلى أفق مواطنة جديد لا ترميم ما هو باد على سطحها من شروخ وتصدعات عبرت عن نفسها فى اقتحام «الكابيتول»، فإن كل سيناريو وارد.
هناك شروخ عميقة فى المجتمع الأمريكى المنقسم بفداحة عرقيا وسياسيا والمأزوم فى نظرته لنفسه ومستقبله ودوره فى عالم جديد يوشك أن يولد من تحت ضربات الجائحة.
لم تولد ظاهرة «ترامب» من فراغ، ولا هو جملة مقحمة على الحقائق الأمريكية.
فهو يعبر بخطابه الشعبوى عن ضيق بالغ فى المجتمع الأمريكى من فساد «المؤسسة»، التى يرمز «الكابيتول» إليها.
أوعز بالاقتحام وجرى نوع من التساهل فى إجراءات الأمن الضرورية، لكن ما جرى من تخريب وعنف انطوى على كراهية المكان نفسه.
وهو يعكس أفكار وتصورات وهواجس قطاعات واسعة من الأمريكيين يؤمنون بتفوق الرجل الأبيض، وأنه وحده صاحب الحق الأصيل فى الثروة والسلطة.
لم يخترع «ترامب» نزعة التعصب ومعاداة الأجانب والمهاجرين والأقليات العرقية، لكنه رفع منسوبها وحرض عليها.
لم يكن ممكنا لرجل بمواصفاته أن يحوز نحو (75) مليون صوتا فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة دون سند اجتماعى يتبنى خطابه، ويرى فيه مخلصه المنتظر!
هكذا فإن مشاهد اقتحام الكابتيول لم تكن مقحمة على السياق الأمريكى بتحريض رئيس أفلت عياره بقدر ما كانت إعلانا عما هو مكتوم من تفاعلات وما قد يحدث فى المستقبل من تداعيات.
أمريكا الآن أمام اختبارات ما بعد الصدمة.
نظرتها إلى نفسها ونظرة العالم إليها.
فى الحالتين نشأت أضرار فادحة يصعب تداركها على الدور الأمريكى بعد انقضاء الجائحة.
أثناء الانتخابات تجلت مقاربتان.
أولاهما، تبناها «ترامب» تحت شعار: «لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى».
وثانيتهما، تبناها «بايدن» باستهداف استعادة القيادة الأمريكية.
المقاربة الأولى، تراجعت خطوة أو خطوتين للخلف بهزيمة «ترامب».
المقاربة الثانية، تقدمت خطوة أو خطوتين للأمام بصعود «بايدن».
أوروبا المصدومة من مشاهد ما جرى فى الكابيتول قد تسعى بدواعى أمنها ومصالحها لمساعدة الرئيس المنتخب فى إعادة تمركز الدور الأمريكى، خشية التمدد الاستراتيجى الروسى والاقتصادى الصينى، لكن ذلك لا يعنى التسليم بالقيادة على النحو الذى كان جاريا عقب الحرب العالمية الثانية.
فى محاولة لتحسين صورتها فإن إدارة «بايدن» سوف تسرع بإجراءات العودة إلى المنظمات الدولية التى كانت قد غادرتها وتوقفت عن تمويلها، مثل منظمة الصحة العالمية و«اليونسكو»، كما إعادة بناء الحلف الغربى وضخ دماء جديدة فيه، لكنه لا يؤسس بذاته لقيادة أمريكية مستأنفة فى عالم جديد يوشك أن يولد.
الأوضاع الداخلية أساس أى صعود مستأنف فى الأوزان الدولية.
ترميم المؤسسة الأمريكية المتداعية قضية ملحة تفرض نفسها على رأس جدول أعمال الرئيس الجديد، لكنها مهمة ليست سهلة بالنظر إلى أوضاع الحزب الجمهورى، الذى يوشك أن يفقد هويته التقليدية ويتحول إلى حزب يمينى شعبوى بأثر حجم نفوذ «ترامب» داخل قواعده.
عن أى حزب جمهورى نتحدث؟
هذا سؤال جوهرى سوف تحكم الإجابة عليه تفاعلات صفوفه ومدى قدرة قيادته على التخلص من إرث «ترامب».
بصورة مقابلة يصح السؤال: عن أى حزب ديمقراطى نتحدث؟
بالتكوين السياسى فإن «بايدن» ابن المؤسسة ولديه خبرة بناء الصلات والعلاقات مع الجمهوريين، غير أنها ليست مهمة فى متناول اليد إذا ما جرى البحث فى القوانين، التى قد تطرح على الأجندة التشريعية بالنظر إلى ارتفاع منسوب قوة اليسار فى الحزب الديمقراطى.
إن إدخال إصلاحات جوهرية فى حقوق المواطنة وبنية المجتمع شرط ضرورى لإصلاح المؤسسة، كما هو شرط ضرورى آخر لتصحيح الصورة واستعادة شىء من زخم الدور الدولى، وإلا فإنها عودة إلى المربع القديم، الذى جعل ممكنا اقتحام الكابيتول.