توقيت القاهرة المحلي 16:35:03 آخر تحديث
  مصر اليوم -

اللقاء الأخير مع هيكل

  مصر اليوم -

اللقاء الأخير مع هيكل

بقلم: عبد الله السناوي

بعد خمس سنوات من رحيله تأكد حضوره رغم الغياب، فالأفكار تبقى بعد أصحابها والتجارب تلهم لأمادٍ طويلة بقدر ما تنطوى على معنى وقيمة.
وهو على سرير المرض الشديد حاول أن يستدعى أسلحته التقليدية فى مقاومته.
معنى الحياة عنده أن يتابع حركة الأحداث وما خلفها، ويقرأ المستقبل وما قد يحدث فيه.
بادرنى بسؤال واحد: «قل لى ما الذى يحدث؟».
جلست على مقعد بجوار سريره أروى وأتحدث، وهو نصف ممدد منتبه للمعانى من وراء الأخبار ولا يخفى قلقه على مستقبل البلد ومصيره.
على مقربة من سريره كتب غربية صدرت حديثا كان قد بدأ فى قراءتها، وبعض الجرائد اليومية المصرية، وشاشة التليفزيون مفتوحة على محطة الـ«C.N.N» الأمريكية الإخبارية.
فى غرفة نومه تبدت شخصيته، فكل شيء بسيط وذوقه خاص واللون الأبيض سيد المكان.
من حين لآخر تدخل السيدة قرينته «هدايت تيمور» تطمئن على تناوله الدواء وتسأل إذا ما كان هناك شيء يطلبه.
كانت تخشى من إنهاك الحديث، وهو يريد أن يدقق فى المعلومات، يسأل فى الخلفيات ويستقصى الأبعاد.
حتى لحظاته الأخيرة ظل مخلصا لمهنته، التى لم ير لنفسه مهنة سواها.
حاول أن يتحدث ويعلق ويحلل كما اعتاد على مدى حياته العامة الطويلة، غير أن المرض الشديد عانده بقسوة.
لم يكن بوسعه، وهو على ذلك الحال، أن يتذكر ما كتبه عن لقاء أخير مع الزعيم الهندى التاريخى «جواهر لال نهرو»: «كان على عادته، حتى وهو على فراش المرض، يريد أن يسمع ويريد أن يحاور».
كان هو نفس الرجل، يريد أن يسمع ويريد أن يحاور حتى النفس الأخير.
استأذنته أن الوقت حان للتفكير فى «تنظيم الطاقة الإنسانية».
أن يتخفف من بعض الأعباء واللقاءات وشواغل العمل اليومى دون أن يغيب عن الساحة وإبداء الرأى فيما يجرى عليها من تفاعلات وحوادث.
علت ابتسامة خفيفة على وجهه المتعب: «لماذا التنظيم؟».. «سوف أمتنع عن أى نشاط وكل حضور حفاظا على صورتى».
سيطرت على وجدانه فكرة أن وقت الرحيل قد حان، كأنه رسم خطًا فى فضاء الغرفة: «هنا النهاية».
انتهت القصة كلها عندما استشعر بعمق أن طاقته الإنسانية استنزفت إلى حد يصعب معه أن يحيا بالأسلوب الذى انتهجه فى العمل والإنتاج والتأثير شاهدا وشريكا فى الأحداث والتحولات الكبرى التى شهدتها مصر منذ ثورة (١٩٥٢) بجوار زعيمها «جمال عبدالناصر»، ومع خلفه «أنور السادات» حتى حرب أكتوبر (١٩٧٣)، وما بعدها من انقلابات دراماتيكية فى السياسات والتوجهات حتى (٢٥) يناير (٢٠١١) وما تلاها من انقلابات دراماتيكية أخرى كان شاهدا عليها ومؤثرا فيها.
معنى الحياة انتهى عند رجل يدرك فلسفة الوجود الإنسانى وقيمة كل دقيقة فى وضع بصمة، أو التأثير فى حركة.
قبل آخر إطلالة تليفزيونية على شبكة (cbc) قرب نهاية (٢٠١٥) لم يكن متحمسا لأى حديث جديد.
تساءل: «ألم يحن الوقت للتوقف النهائى عن مثل هذه الحوارات؟».
بدا أن هناك شيئا ما يضايقه لكنه لم يفصح عنه، أراد أن ينسحب بهدوء من المجال العام كله.
قلت: «أرجوك ألا تفعل ذلك، طالما أعطاك الله الصحة والهمة فلا تتوقف».
سأل مرة أخرى: «لماذا؟».
قلت: «معنى الحياة».
ردد الجملة مرتين، ثم صمت كأنه فى حوار داخلى لا شأن له بما حوله.
كان لا يهدر وقتًا فيما لا طائل منه، والحياة بلا دور كأنها موت مؤجل.
رغم شدة المرض تبدَّى كبرياؤه الإنسانى، أراد أن يعتمد على نفسه ولا يطلب مساعدة من أحد، لا يشتكى ويواجه قدره رافعا رأسه.
بعد طول ممانعة تقبل مساعدتى فى تناول كوب ماء على «كومودينو» بجوار سريره لم يستطع من فرط التعب الوصول إليه.
أراد أن يرحل على الصورة التى حرص عليها طوال حياته ورسم بدأب أدق تفاصيلها.
قرب النهاية لم يأبه بالقيود المفروضة على حركته بعد عملية جراحية فى عنق فخذه الأيمن إثر سقوط من فوق درج فى «الغردقة» أثناء إجازة عيد أضحى.
حاول بقدر ما يستطيع أن تمضى الحياة على وتيرتها السابقة رغم مصاعب الحركة بـ«الووكرز»، الذى استعان به فى حركته حتى يأمن أية مفاجآت.
كان واضحا أمام نفسه قبل الآخرين وهو يقول: «لا يهمنى إن ظهرت صورى وأنا أمشى بالووكرز».
لم يجد غضاضة أن يظهر فى أماكن عامة على هذه الصورة، بعضها دور مناسبات، وبعضها أماكن فائقة الأهمية.
رغم أنه واصل العلاج الطبيعى بهمة، وحاول أن يحافظ على لياقته بقدر ما يمكن، إلا أنه لم يحاول مرة واحدة المشى بدونها.
تمنيت عليه أن أراه واقفا على قدميه، أن يتحرك بحرية ويذهب إلى حيث يشاء دون أية وسائل مساعدة.
قال: «أنا أستطيع الآن، لكن لا تنس أننى فى سن السقوط فيه محتمل بأية لحظة ولأى سبب طارئ».
كان اعتقاده أنه طالما يجلس على مكتبه، يقرأ ويعمل ويحاور ويساهم فى السجال العام وتخفيف أعباء التحول إلى المستقبل، فإنه لا شيء يهم».
فى تلك الظروف خطر له أن يطل على الأندلس بعد ثلاثين سنة من آخر زيارة وذكرياته فيها لا تغادر مخيلته.
كانت أجراس الزمن تدق فى المكان مرحبة باقتراب عام (٢٠١٦).
بدا مسحورا بجمال الأندلس وإرثه الحضارى كأنه يراه لأول مرة.
فى كل مكان أثر جليل من تاريخ أمة عريقة ارتبكت هويتها وضاعت بوصلتها وجرفت نظرية أمنها القومى.
هل كانت مصادفة أن يختار الأندلس رحلة أخيرة؟
فكر فى اليونان وأماكن أخرى لكن شيئا ما دعاه إلى الأندلس، كأنها رحلة وداع لكل معنى أهدرناه.
من وداع فى الأندلس إلى الوداع فى القاهرة تداعى كالجبال فى أيام قليلة.
قبل أن يفارق الحياة اتصلت بى السيدة قرينته قائلة: «طلب أن يراك مرتين لكن حالته لا تسمح بأى لقاء.. أردت أن أقول لك ذلك حتى أبرئ ذمتى أمام الله وأمامه».
لم أكن أعرف وأنا أنحنى على جبينه مقبلا، وهو على سرير مرضه الشديد، أنه اللقاء الأخير.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

اللقاء الأخير مع هيكل اللقاء الأخير مع هيكل



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 17:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
  مصر اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 10:52 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة
  مصر اليوم - انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة

GMT 10:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية
  مصر اليوم - واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية

GMT 01:58 2021 الأربعاء ,01 أيلول / سبتمبر

البورصة المصرية تربح 31.4 مليار جنيه خلال شهر أغسطس

GMT 23:21 2020 الأربعاء ,26 آب / أغسطس

بورصة بيروت تغلق على تحسّن بنسبة 0.37%

GMT 13:08 2020 الإثنين ,24 شباط / فبراير

7 قواعد للسعادة على طريقة زينة تعرف عليهم

GMT 01:27 2018 الإثنين ,26 شباط / فبراير

باحثون يؤكدون تقلص عيون العناكب الذكور بنسبة 25%

GMT 15:46 2018 الأربعاء ,07 شباط / فبراير

كارل هاينز رومينيجه يشيد بسياسة هاينكس

GMT 12:17 2018 الجمعة ,02 شباط / فبراير

Mikyajy تطلق أحمر شفاه لعاشقات الموضة والتفرد

GMT 16:48 2018 الخميس ,25 كانون الثاني / يناير

المقاصة يسعى لاستعادة الانتصارات أمام الانتاج

GMT 14:39 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

"ثقافة أبوقرقاص" تنظم فعاليات في قرية الكرم وقصر الإبداع
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon