أثناء حرب الاستنزاف دعت قوات الاحتلال الإسرائيلى شيوخ قبائل سيناء إلى مؤتمر فى «الحسنة» حضره وزير دفاعها «موشى ديان» بهدف إعلان كيان مستقل يقطع كل الأواصر مع الوطن الأم ويشكك بأحقيته فى استعادة أراضيه المحتلة بقوة السلاح.
فى ذلك المؤتمر وقف الشيخ «سالم الهرش» متحدثا باسم رؤساء القبائل: «نحن مصريون والكلام ليس معنا، لمصر عنوان واحد فى القاهرة هو رئيسنا جمال عبدالناصر».
بقدر ما أبداه ذلك الشيخ المهيب من حسم أجهض المشروع الإسرائيلى لإنشاء «كيان عميل» إلى الأبد.
مصرية سيناء فى أهلها قبل أى شىء آخر.
أفضل ما ينسب للعملية العسكرية الشاملة (سيناء 2018) لتقويض تمركزات جماعات العنف والإرهاب انضباطها على قواعد اشتباك تحمى المدنيين من أى أخطار تهدد سلامتهم وحياتهم.
كانت هناك مخاوف مسبقة أن تفضى العمليات باتساع نطاقها وقوة نيرانها إلى إضرار فادح بهم.
بقدر ما وفرته قواعد الاشتباك من ضوابط صارمة سرت بين أهالى سيناء ـ حسب المعلومات المتواترة ـ روح عامة تدعم القوات المحاربة بكل ما هو لازم لإنجاح مهمتها حتى تعود الدولة لممارسة أدوارها الطبيعية.
بقوة الالتفاف حول الجيش تتأكد استحالة نزع سيناء عن الجسد المصرى باسم «ولاية» تبايع «داعش»، أو باسم «صفقة قرن» تلحقها بـ«غزة الكبرى» مقابل تبادل أراض فى النقب.
سيناء قضية وجود، فإذا ما نزعت ـ تحت أية لافتة أو ذريعة ـ تنكفئ مصر خلف قناة السويس وتفقد مناعتها الاستراتيجية بصورة تجعل انهيارها من الداخل أمرا محتما.
إن تأمين سيناء إلى أقصى حد ممكن يتجاوز ضرورات الحرب على الإرهاب وتقويض جماعاته إلى حفظ سلامة البلد ومستقبله كله.
هذه مسألة وجودية لا تصح مساجلة فيها، أو خلط أوراق، فمستقبل سيناء هو نفسه مستقبل مصر.
بالنظر إلى أساسيات الأمن القومى المصرى، فإن أى رهان على إسرائيل خاطئ استراتيجيا وأثمانه باهظة.
وفق المصالح الآنية قد تغض الطرف عن حجم القوات المسموح دخولها سيناء، التى تنص عليها البروتوكولات الأمنية للمعاهدة المصرية الإسرائيلية.
غير أن ذلك لا يمتد إلى أى تعديل فى نظرتها الاستراتيجية لسيناء، حيث التهديد الرئيسى المحتمل، ولا لمصر التى تعمل على إضعافها وتهميش أدوارها، أو أن تنكفئ على أحوالها المضطربة.
رغم أى ظلال سياسية يظل الحضور العسكرى المصرى، بأحجامه وقوة نيرانه وكفاءة تخطيطه ومستويات انضباطه، رسالة هيبة فى الإقليم المشتعل بالنيران.
الأهم أنه أكد ـ مجددا ـ عمق ارتباط المصرى بجيشه حيث حظيت عملية (سيناء 2018) بالدعم والإسناد من جميع أطياف الحياة العامة ـ كما المواطنين العاديين.
هذه الدرجة من الالتفاف تستحق النظر بعمق فى استخلاص دروسها والعمل بأسرع ما يمكن على عودة الجيش إلى مهامه الطبيعية فى حفظ الأمن القومى دون أى أدوار أخرى محل تساؤلات.
كان من رأى الرئيس «عبدالفتاح السيسى» عندما كان مديرا للمخابرات الحربية قرب نهاية المرحلة الانتقالية التى أعقبت ثورة «يناير»: «فى اللحظة التى يعود فيها الجيش إلى مهامه الطبيعية سوف ترتفع شعبيته إلى السماء».
هذا ما حدث ـ بالضبط ـ بعد انتهاء تلك المرحلة الانتقالية.
وهو ما يحدث ـ الآن ـ عندما بدأت العمليات العسكرية فى سيناء.
بوضوح أهداف العملية حصدت شعبيتها، فالسعى إلى حسم الحرب مع الإرهاب مسألة وجود، كما أنها مسألة مستقبل، فهو يقتل ويروع ويهز سلامة المجتمع ويؤثر ـ بالسلب ـ على حركة الاقتصاد ومعدلات السياحة.
غير أنه يتوجب الالتفات إلى ضرورات ضبط الخطاب الإعلامى على حقائق حروب الإرهاب.
بطبيعة هذا النوع من الحروب فإنها لا تحسم بضربة واحدة قاضية، أيا كانت مستويات قوتها وكفاءتها المعلوماتية.
هذه حقيقة تسرى فى مصر، كما أى دولة أخرى بالعالم.
إذا جاز الاجتهاد فإن ما هو مطلوب من العملية العسكرية الجارية ضرب تمركزات جماعات العنف والإرهاب، وشل قدرتها على إلحاق الأذى وترويع المواطنين واستعادة هيبة الدولة وأجهزتها الأمنية فى شمال سيناء.
هذا التقويض ممكن ويحدث الآن، وهو إنجاز ميدانى له ما بعده، أما الحديث عن الاجتثاث الكامل فهو مبكر.
بأى حساب احترازى لا يجب استبعاد ضربة إرهابية هنا أو هناك لإرباك الروح المعنوية والتشكيك فى حجم الإنجاز الذى تحقق ـ خاصة بعد أن تتوقف العمليات العسكرية والأمنية، التى تشمل شمال سيناء والظهير الصحراوى الغربى والحدود البحرية والمدن الكبرى ومناطق واسعة فى الدلتا.
التهويل، كما التهوين، لا تسلم نتائجه.
كأى حرب ضد تهديد وجودى فإنها مسألة إجماع وطنى.
كان الخطأ الأكبر فى المعالجات الإعلامية أثناء حرب تقتضى توسيع التماسك الوطنى إلى أقصى حد ممكن، استغراقها فى التوظيف السياسى الزائد، كأنها حرب نظام وليست حرب بلد بأسره.
هناك فارق جوهرى بين التوظيف السياسى الزائد والأثر السياسى الطبيعى.
الأول، من أعمال الدعاية ـ كأن الحرب أجريت لأسباب أخرى غير مجابهة الإرهاب.
بعض الدعايات تركت الموضوع الأصلى لتسوى حساباتها مع سياسيين معارضين لهم وجهات نظر مناقضة فى الشأن العام والانتخابات الرئاسية المقبلة، التى تفتقد أية صلة بفكرة المنافسة بين تيارات ورجال وبرامج، فكل شىء مقرر سلفا.
والثانى، يضخ بتداعياته دماء جديدة فى شرايين نظام الحكم دون حاجة إلى دعايات درجة ثانية وثالثة وفتاوى لخبراء استراتيجيين لا علاقة لها بأية خبرة، أو أية استراتيجية.
استثمار الأثر السياسى مشروع ومتاح، رغم أجواء الإحباط المخيمة على المشهد السياسى.
بقوة الدستور اكتسبت عملية سيناء شرعيتها الكاملة.
وفق نصه: «القوات المسلحة ملك الشعب، مهمتها حماية البلاد، والحفاظ على أمنها وسلامة أراضيها».
بالتعريف الدستورى فإن شرعية السلاح لا تنعزل عن غيرها من الشرعيات وأهمها التزام الحريات العامة وحقوق المواطنين وقواعد دولة القانون والمؤسسات.
إذا كانت الكتل الأساسية فى المجتمع، على اختلافاتها وتنوعها، تؤيد بلا تحفظ الأعمال العسكرية والأمنية الجارية فى الحرب على الإرهاب، فما معنى التوغل فى تصفية الحسابات والتنكيل بأى رأى معارض وشيوع أجواء الترويع فوق الرءوس؟
الصمت تحت الترويع مشروع انفجار مؤجل.
إلغاء التنوع سحب من رصيد أى استقرار.
لمصلحة مصر المنهكة أن تضع كمادات ثلج فوق رأسها الملتهب لا أن تمضى إلى نهايات الطرق المسدودة.
نقلا عن الشروق القاهرية