بقلم: عبد الله السناوي
لم يكن الرئيس الأمريكى الجديد «باراك أوباما»، وهو يطل على المنطقة من القاهرة فى يونيو (2009)، معنيا بمستقبل نظام الحكم فى مصر بقدر ما كان يسعى لفتح صفحة جديدة مع العالم الإسلامى.
فى حدث استثنائى بتوقيته ورهاناته ألقى من على منصة جامعة القاهرة خطابا موجها للعالم الإسلامى، حاول فيه أن يرمم صورة بلاده المتصدعة، التى أفضت إليها سياسات وخيارات ألحقت أبلغ الضرر بحقوقه وقضاياه ووجوده الإنسانى نفسه.
أراد أن يبدو مقنعا بأن هناك صفحة جديدة فى العلاقات العربية ــ الأمريكية تصحح الصور النمطية المتبادلة، تتفهم معاناة العرب والمسلمين.. لكن دون أن يلتزم بتكاليف سياسية جديدة، فلا أحد يقدم العطايا الاستراتيجية على طريقة «بابا نويل» فى احتفالات أعياد الميلاد.
جاء إلى المنطقة بمدخل مختلف ولغة جديدة بحثًا عن مخارج للورطة الأمريكية، التى تسبب فيها سلفه الجمهورى «جورج دبليو بوش» عند احتلال العراق عام (2003) وما ترتب عليه من خلل موازين قوة ونتائج وتداعيات أقرب إلى الهزائم الاستراتيجية.
فى مذكراته «أرض الميعاد»، التى وزعت فى اليوم الأول لطرحها (890) ألف نسخة، توقف عند تلك الزيارة وسجل انطباعاته ومشاهداته وحواراته دون احترازات دبلوماسية كان يقتضيها منصبه.
قيمة شهادة «أوباما» أنها منسوبة إليه بأكثر مما تضمنته من معلومات خافية، فأغلب ما فيها معروف ومتداول عبر شهادات عديدة لأطراف أخرى تداخلت فى المشهد المأزوم.
فى مذكراته أكد ما كان متداولا فى القاهرة من أنه طلب ألا يحضر الرئيس المصرى خطابه فى جامعة القاهرة.
كان ذلك تجاوزا لأية اعتبارات سياسية أو بروتوكولية، لكن ما طلبه حدث!
أراد أن يتخفف من عبء صورة «مبارك»، وهو يتحدث عبر منصة جامعة القاهرة برمزيتها الثقافية والأدبية إلى العالم الإسلامى.
كانت تلك إشارة أولى إلى عمق أزمة بين رئاستين توشك أن تنفجر.
لم تلق الحفاوة الإمبراطورية التى استقبل بها هوى فى نفسه، فقد استهول الشوارع المهجورة بالإجراءات الأمنية المشددة، وعزلة «مبارك» فى القصور التى يعيش فيها مغتربا عن شعبه ومعاناته.
لم يكن معجبا بأى قدر بـ«مبارك»، الذى نالت السنين من صحته وهمته وقدرته على إدارة الدولة.
كانت تلك إشارة ثانية إلى الأزمة المستحكمة، التى سوف تأخذ مداها بعد شهور قليلة فى أحداث يناير العاصفة عام (2011).
حَادث «مبارك» فى سوء إدارة الاقتصاد وملف الحريات العامة وحقوق الإنسان داعيا إلى إطلاق سراح السجناء السياسيين وتخفيف القيود عن الصحافة، ولم يكن لدى الرئيس المصرى الأسبق ما يقوله غير أن «المصريين يؤيدوننى».
وكانت تلك إشارة ثالثة للمدى الذى يمكن أن تصل إليه العلاقة بين الرئيسين فى مستقبل الأيام.
فى قاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة القاهرة دخل مباشرة إلى موضوعه وهدفه من الزيارة أمام شريحة واسعة من المجتمع المصرى، دعتهم السفارة الأمريكية بالقاهرة، ولم يكن للسلطة المصرية أى دور، غير توفير الأمن.
بعد كل ما حدث من تطورات وحوادث نحن بحاجة إلى مراجعة لما جرى فى جامعة القاهرة والرهانات التى صاحبت زيارة «أوباما».
كان هوسا فى غير محله، كأنه «صلاح الدين الأيوبى» جاء حاملا رايات النصر إلى المنطقة المنكوبة بأزماتها وحروبها.
لم يراجع أحد هنا حتى الآن ما حدث فى ذلك اليوم من رهانات خاطئة، ثبت تماما أنها تجاوزت حقائق الأشياء والمصالح والاستراتيجيات.
«أوباما» نفسه استغرب فى مذكراته بعض ما رآه فى قاعة الاحتفالات الكبرى بالجامعة العريقة، فما إن صعد إلى المنصة وألقى التحية الإسلامية «السلام عليكم» هلل الجمهور بحماس بالغ، واستمر يصفق ويهتف طوال خطابه.
لم يقل جديدا، ولا أحدث اختراقا، وبدا النص كله متماسك إنشائيا ومهلهل استراتيجيا، كما كتبت فى وقته وحينه محذرا من الرهانات الخاطئة على سيد البيت الأبيض الجديد، فلا أحد يدافع عن قضايا الآخرين بالنيابة.
فى ذلك الخطاب الموجه إلى العالم الإسلامى وصف «أوباما» العلاقات الأمريكية الإسرائيلية بأنها «غير قابلة للكسر».
كانت تلك العبارة الصريحة تعبيرا عن حقائق السياسة الأمريكية، أراد بها «أوباما» أن يضع حدودا استراتيجية لما يمكن أن يتبعه من سياسات فى تحسين العلاقات مع العالم الإسلامى، وأن أى رهان على أى صدام محتمل بين الولايات المتحدة وإسرائيل فى عهده يتماهى مع الوهم، أو هو الوهم ذاته. فللاستراتيجيات مصالح تتحكم فيها وأهداف تصوغ حركتها، ولتعديلات الخطاب السياسى حدود لا يتخطاها.
أثناء زيارته للقاهرة حاول «جمال مبارك» النجل الأصغر للرئيس أن يقلد خطواته السريعة قفزا على السلالم، كأنه مشروع «أوباما مصرى»، شاب ومنفتح على الحقائق الجديدة ولديه ما يضيفه بـ«التوريث» إلى موقع المسئولية الأولى.
كان ذلك تقليدا بغير موضوع ورهانا بغير أساس.
عند هبوب العواصف فى تونس نهايات (2010) سأل «أوباما» «مبارك« عن احتمالات امتداد المظاهرات الغاضبة من تونس إلى مصر، فكانت إجابته: «مصر ليست تونس».
ترددت تلك العبارة بحذافيرها فى مقالات رأى لمقربين من السلطة، تبرأ منها أصحابها حين استبان قدر سوء التقدير الفادح فيها.
حين وصلت إلى مصر رياح التغيير دعاه إلى مغادرة منصبه بذريعة لافتة تستحق التوقف عندها: «إذا كنت تريد انتخاب حكومة لا يهيمن عليها الإخوان فقد حان وقت التنحى».
يظهر هنا قدر كبير من الاضطراب فى رؤية «أوباما» عند لحظة مفصلية.
فهو من ناحية أبدى حرصا زائدا على تواجد ممثلين لـ«الإخوان المسلمين» أثناء إلقاء خطابه فى جامعة القاهرة، إدارته نظمت حوارات غير معلنة مع الجماعة للوصول إلى تفاهمات استراتيجية تضمن المصالح الأمريكية وتتبع خطاها فى الإقليم، وساعد بالضغوط على وصولها إلى السلطة.
وهو من ناحية أخرى يعترف بأنه قد حذر «مبارك» من وصول «الإخوان» إلى السلطة قبل أن يتوصل بعد انقضاء التجربة المريرة فيما يشبه النقد المتأخر إلى أن «الفلسفة الأصولية لجماعة الإخوان تجعلها غير جديرة بالثقة كوصى على التعددية الديمقراطية».
مراجعة الأسباب والظروف والنظر فيما وراءها من حسابات واستراتيجيات ضرورية لفهم ما جرى على نحو صحيح بعيدا عن نظريات المؤامرة.
بحقائق المصالح والاستراتيجيات تدخلت الولايات المتحدة لدفع «مبارك» للتنحى، كما أكد «أوباما»، لكنه لم يصنع الثورة بقدر ما ساعد على إجهاض أهدافها فى التحول إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة.