يوشك أن يعلن «مشروع سلام جديد» تتبناه إدارة الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب».
التسمية ذاتها مخالتة فى توصيف حقيقة ذلك المشروع، فلا يوجد فيه ما يستحق أن ينسب إلى أى سلام ـ إلا أن يكون سلام القوة.
كما لا يوجد ـ حسب المعلومات المتاحة ـ ما ينبئ عن أى تراجع عن صلب «صفقة القرن»، التى تطلب كل شىء للإسرائيليين مقابل لا شىء للفلسطينيين والتطبيع الكامل مع العالم العربى دون أى انسحاب من الأراضى المحتلة منذ عام (١٩٦٧).
بحسب ما هو منسوب للرئيس الفلسطينى «محمود عباس» فى اجتماع مغلق مع قيادات حركة «فتح»: «لن أنهى حياتى بخيانة».
فى الكلام إدراك أنه ليس بوسع أحد، فلسطينى أو عربى، أن يوافق على التخلى عن القدس، أو ضم الكتل الاستيطانية فى الضفة الغربية للدولة العبرية، دون أن تلحقه تلك التهمة الشنيعة.
بأى نظر لا يمكن وصف «عباس» بأنه شخصية متشددة، فهو عراب اتفاقية «أوسلو» والرجل الذى راهنت إسرائيل على اعتداله لفرض سلام الأمر الواقع.
هكذا فإن صفقة القرن محكوم عليها بالفشل المسبق الذريع، فمفتاح الموقف داخل الأراضى المحتلة وليس فى أى مكان آخر ـ مهما تعاظمت الضغوط.
أخطر تحد لهذا النوع من السلام ردات الفعل المتوقعة لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة بحضور متوقع لـ«ترامب»، كما أعلن بنفسه، فى ذكرى مرور (٧٠) سنة على تأسيس الدولة العبرية، التى هى ذكرى نكبة فلسطين ونكبة العرب.
الاستهانة المفرطة لا يمكن أن تنسب لأى سلام بقدر ما تطلب الإذعان الكامل وردات الفعل قد تصل مدى غير مسبوق.
الحقائق تعلن عن نفسها فى النهاية، فهناك شعب تحت الاحتلال والكلمة الأخيرة له.
قوة كلمته تعود إلى مركزية قضيته، فلا استقرار بالإقليم إذا لم يوضع حد لمعاناة الفلسطينيين والعدوان على حقوقهم المشروعة المنصوص عليها فى قرارات دولية.
الأفدح أن ما هو مطروح باسم «السلام» سوف يفضى إلى تصعيد مفتوح فى مستويات التوتر والصدام بأكثر أقاليم العالم اشتعالا بالنيران.
أولويات «ترامب» تتحدد فى التماهى مع كامل المشروع الصهيونى بأكثر من أى رئيس أمريكى آخر وتصعيد الأزمة مع إيران بانسحاب متوقع فى مايو المقبل من الاتفاق النووى ما لم يتم تعديله، وهذا شرط شبه مستحيل بالنظر إلى مواقف الأطراف الأخرى الشريكة فى ذلك الاتفاق والموقف الإيرانى نفسه.
بالتوقيت فإن شهر مايو المقبل هو الموعد المحدد للتصعيد بغير سقف على المسرحين الفلسطينى والإقليمى.
الأولويات بين «ترامب» و«نتنياهو» متطابقة ولكل منهما أسباب إضافية للانخراط فى «مشروع السلام» المزمع والتصعيد الإقليمى المنتظر.
الأول ـ مأزوم تحت ضغط فضائح إدارته والاستقالات المتعاقبة داخلها، وهو يبحث عن مخرج ما من أزمته على حساب القضية الفلسطينية وما تبقى من أمن فى الإقليم يرضى اللوبى اليهودى ويضفى عليه دون استحقاق صفة «رجل السلام»!
والثانى ـ متهم بالفساد وبعض معاونيه شهدوا ضده للإفلات من الملاحقة القضائية، وهو يبحث عن مخرج من أزمته بإثبات أنه الأكثر تشددا مع الفلسطينيين فيما يتعلق بالأمن الإسرائيلى وضم القدس والمستوطنات والتطبيع المجانى غير المسبوق مع دول مركزية فى العالم العربى.
كأى طبخة سياسية رديئة فإنها تحتاج إلى غطاء ما والتفكير ينصرف إلى السعودية ومصر والأردن، لكن حجم المخاطر الماثلة يجعل من الإقدام على توفير ذلك الغطاء مقامرة كبرى لها عواقبها الوخيمة.
باليقين فإن أولى الجولات الخارجية لولى العهد السعودى «محمد بن سلمان» تدخل فى إطار التمهيد لمشروع السلام المتوقع.
كانت القاهرة محطته الأولى، وبدا ذلك مقصودا حتى يتسنى له أن يتحدث فى لندن وواشنطن على التوالى باسم العالم العربى لا باسم السعودية وحدها.
لهذا السبب ـ قبل غيره ـ حرص على تأكيد أن نسبة التطابق المصرى السعودى فى ملفات الإقليم مائة فى المائة، وهو كلام يصعب إثباته بالنظر إلى التباينات المعروفة فى الملفين السورى واليمنى على وجه الخصوص.
يستلفت الانتباه أن محطة ولى العهد الثانية العاصمة البريطانية لندن قبل التوجه إلى واشنطن.
السؤال هنا: لماذا لندن وليست باريس الأكثر حيوية ومبادرة الآن فى الإقليم؟
إذا افترضنا، وهذا وارد تماما، أن هناك من نصح أن تضم جولته لندن فإن الهدف استدعاء دور بريطانى فاعل تراجع حضوره فى السنوات الأخيرة لإسناد أية مبادرة أمريكية ـ كما جرت العادة.
كما أنه يعنى استبعاد أى دور فرنسى على قدر من الاستقلال دعا الرئيس السابق «فرانسوا أولاند» قرب نهاية ولايته لاستضافة مؤتمر سلام دولى لحل القضية الفلسطينية وفق المرجعيات الدولية، وقد قاطعته حكومة «نتنياهو».
معضلة ولى العهد الشاب أن طموحه لتثبيت موقعه وخلافة والده تدعوه إلى أكبر قدر ممكن من مجاراة المشروع الأمريكى، لكنه باليقين يعرف أن لمثل هذه المجاراة حدودا لا يستطيع تخطيها.
تحدث فى القاهرة عن القدس كعاصمة للدولة الفلسطينية واستعادة الأراضى العربية المحتلة منذ عام (١٩٦٧).
بنص الكلام فهو تقليدى ومعتاد.
وبتوقيته فهو حذر من العواقب والتداعيات.
أولوياته تتحدد فى مسألتين:
الأولى ـ الحسم المبكر لأى صراع محتمل على السلطة بعد الملك «سلمان».
كانت الاعتقالات التى طالت شخصيات كبيرة فى الأسرة الحاكمة ورجال أعمال نافذين باسم «الحرب على الفساد» تعبيرا عن خشية انتظار ذلك الحسم على مستقبله.
وكانت التغييرات المتعاقبة فى المؤسستين العسكرية والأمنية تعبيرا عن قلق فى مستويات الولاء أكثر من أى اعتبار آخر.
فى بلد مفرط فى محافظته مثل السعودية فإن ما اتخذه من قرارات وإجراءات تتعلق بحفلات الغناء وقيادة المرأة للسيارات بدت توجها إيجابيا، لكنه يقصر عن الاحتياجات الحقيقية للمجتمع السعودى الذى اتسعت فيه طبقة وسطى متعلمة اطلعت على العصر وتطلب الشراكة فى الحكم والانتقال إلى «الملكية الدستورية»، لا ما أطلق عليه «الملكية القبلية».
أرجو ألا ننسى أن ما تريده إدارة «ترامب» من السعودية فوائض نفطها لا تحديثها وإلحاقها بالعصر وتطويع قدرتها المالية الفائقة لمقتضى دمج إسرائيل بالإقليم وأن تكون فاعلا رئيسيا فيه.
والثانية ـ الصراع الإقليمى مع إيران، فالسعودية مأزومة فى الملفات جميعها، بلا استثناء، من خاصرتها الجنوبية عند اليمن وإخفاق حملتها العسكرية فى الحسم بعد مرور ثلاث سنوات، فيما الاتهامات الدولية تتصاعد حتى داخل وزارة الخارجية الأمريكية بشأن ما يحدث من مآس إنسانية، إلى سوريا حيث تقوضت أدوارها وأصبحت شبه مستبعدة من مناورات وحسابات القوة.
تلك الإخفاقات استدعت بالحساب السعودى إسباغ صفة العدو على المنافس الإيرانى والمضى فى بناء علاقات مع إسرائيل على مستويات استراتيجية وأمنية واقتصادية توحى باحتمال انتقالها للعلن فى وقت قريب.
ما يجرى بالضبط ـ الآن ـ تأهب لإعلان صفقة سلام القوة وتوظيف تصدعات العالم العربى لبناء حلف واسع يضم إسرائيل فى مواجهة إيران ومن معها على أنقاض القضية الفلسطينية.
وتلك أوضاع منذرة بصدامات وحروب وانهيارات جديدة فى الإقليم المنكوب
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية