بقلم: عبد الله السناوي
بقدر اتساع الأفق السياسى السودانى على تطلعات التحول إلى دولة مدنية حديثة تبدت هواجس ومخاوف من سيناريوهات الإجهاض، قبل أن يستكمل مقوماته وتستقر حقائقه فى نظام سياسى جديد يعلن القطيعة النهائية مع إرث الماضى.
فى حفل التوقيع على وثائق المرحلة الانتقالية كان الفرح طاغيا بالوصول إلى تلك النقطة بعد صدامات وتضحيات سقط فيها شهداء ومصابون ونزف السودان المنهك، كما لم يحدث من قبل، غير أن ذلك لم يحل دون أن تطرح التحديات نفسها عند خط البداية، وكل تحد معه تساؤلاته المعلقة.
إلى أى حد يمكن التماسك الوطنى الواسع حول المبادئ الأساسية والأهداف التى توافقت عليها «قوى إعلان الحرية والتغيير»، رافعة الحدث الكبير، إلى الشوارع والميادين ومسارح التاريخ الحى؟
السؤال ليس افتراضيا، فلا يوجد هيكل تنظيمى منضبط لـ«قوى الحرية والتغيير»، وهى شبكة من التحالفات المتداخلة والتناقضات المؤجلة، وتحتاج إلى اتساع أفق لتجنب مطبات وعثرات الطريق الطويل حتى انتهاء المرحلة الانتقالية، التى تستغرق أكثر من ثلاث سنوات.
عند تشكيل المجلس السيادى اضطرت «قوى الحرية والتغيير» إلى طلب مهلة يومين إضافيين حتى تعدل بالحذف والإضافة فى قائمة ممثليها؛ حيث امتلكت بعض أطرافها حق الفيتو على أسماء بعينها، أو على تجاوز القواعد المتفق عليها فى الاختيار.
فى نهاية المطاف لم يكن الاختيار متسقا مع أحد المبادئ الرئيسية وهو رفض المحاصصة الحزبية والجهوية وأن يقتصر الاختيار على الكفاءة وحدها.
لاعتبارات عملية كان ذلك شبه مستحيل فى أوضاع تحكمها الجهويات والصراعات المعلنة والمكتومة.
إذا كان ممكنا فى لحظة الذروة، ذروة الحدث والثقة العامة تجتاح الشوارع، أن يحدث شىء من الإحباط فإنه يصعب استبعاد اتساع الخلافات بين مكونات «قوى إعلان الحرية والتغيير» فى تجربة الحكم، أو تحت ضغط أى صدامات محتملة بين المكونين العسكرى والمدنى فى مجلس السيادة.
الضمانة الرئيسية للتحكم فى حركة الأحداث، أو أن تظل تحت سقف البرنامج المشترك، الوعى العام بحجم التحديات والمخاطر ومطبات الطريق وقدرة الأجيال الجديدة التى تصدرت الصفوف على ألا تفقد البوصلة.
كان لافتا تصدر الأجيال الجديدة مشهد التوقيع على وثائق المرحلة الانتقالية، فالذى وقع باسم الحرية والتغيير عليها «أحمد ربيع» مدرس شاب للفيزياء فى مطلع الثلاثينيات، والذى ألقى البيان الرئيسى «محمد ناجى الأصم» طبيب شاب فى الثامنة والعشرين من عمره.
غير أن ذلك لا يعنى أن القوى الحديثة قد استتب لها الأمر، وأن الأجيال الجديدة استقرت عندها حقائق القوة.
وفق ما هو متفق عليه لا يحق لأحد من قيادات الحرية والتغيير، أو تجمع المهنيين، أن يتولى أى موقع تنفيذى، سيادى أو وزارى، خلال المرحلة الانتقالية تجنبا لأية مشاحنات حزبية، أو أن تفتقد التحالفات تماسكها وقدرتها على الإشراف العام على مدى الالتزام بنصوص الوثائق الموقعة.
هذا مبدأ صحيح من الناحية العملية لكنه يفقد قيادات الثورة المؤهلة خبرة الحكم واكتساب مهاراته الضرورية ويحيل السلطة الانتقالية إلى مجموعة من التكنوقراط المستقلين، وهذا مشروع تناقض مؤجل بين الثورة والدولة حيث لا يمكن تجنب الصدام بين عقليات مختلفة ونوازع متضاربة.
باليقين فإن الدعم الإقليمى والدولى الذى توافر فى حفل التوقيع، قبله وبعده، للتحول الكبير فى السودان ضمانة إضافية لمضى الحركة للأمام بعض الوقت، وليس كل الوقت؛ حيث التناقضات الإقليمية مؤجلة مؤقتا لحين اتضاح الحقائق الجديدة.
من عناصر القلق المبكر غياب الحركات المسلحة عن حفل التوقيع وقدر التحفظات التى أبدتها، وربما تعجلها تحميل الحوادث أكثر مما تحتمل والمصالحات بأكثر مما تطيق الصياغات، التى تم التوصل إليها بمشقة هائلة.
بأى نظر جدى لموروث الأزمة السودانية فإن قضية الحرب والسلام استهلكت أعصاب وقدرات وموارد الدولة، قسمتها ومزقتها وأفقرت شعبها وأشاعت اليأس العام من أى إصلاح.
يكاد أن يكون مستحيلا التطلع إلى تحسين الأحوال المعيشية المتردية والخدمات العامة المنهارة دون وضع حد للحروب الداخلية.
لم تكن مصادفة أن يعلن «عبدالله حمدوك» رئيس الوزراء الجديد، أن السلام قضيته الأولى، رغم أنه بالاختصاص رجل اقتصاد وتنمية لا رجل حرب وسلاح.
ذلك التداخل بين ما هو اقتصادى وما هو أمنى عنصر حاكم فى أى تقدم للأمام، كلاهما لازم للآخر.
لا الأمن بمعناه الواسع ممكن بلا إعادة دمج للحركات المسلحة فى البنية السياسية للبلد ولا حركة الاقتصاد متاحة إلا إذا تغيرت البيئة العامة، التى تحرض على العنف والفساد والاستبداد.
يفترض نظريا أن تستغرق قضية الحرب والسلام الستة أشهر الأولى من المرحلة الانتقالية.
بالنظر إلى فجوات عدم الثقة المتوارثة يصعب التقيد بالمواعيد المضروبة سلفا، أو أن تمضى المباحثات على طرق معبدة عليها إشارات مرور ترشد إلى النهايات السعيدة.
كل شىء سوف يمضى شاقا، وله أكلاف وأثمان.
المشكلة ــ هنا ــ أن الأزمة الاقتصادية يصعب أن تنتظر، فيما السودانى العادى يتطلع إلى تحسين أحواله، أن يحدث شىء ما جديد ومفارق عما كان عليه ودعاه للثورة وبذل التضحيات.
كيف؟.. ووفق أى خطة وأولويات؟.. وبأى قدرات وإمكانيات؟!
أسئلة أقرب إلى المعضلات وقد تفضى الإجابات عند حدود الواقعية إلى ما يشبه الارتطام بأرض الواقع بعد التحليق قرب القمر.
الملف الاقتصادى فى عمقه تتداخل فيه اعتبارات التهميش والتمييز ونهب المقدرات العامة مع سوء الإدارة، كما تتداخل فيه التناقضات الإقليمية التى لعب النظام السابق على كل حبالها.
هذه كلها تحديات تحتاج إلى وقت طويل نسبيا وإعادة تصحيح عند جذور السياسات وبناء البلد من جديد وتفكيك الدولة العميقة، التى ترسخت على مدى ثلاثين سنة على يد واحد من أسوأ النظم السياسية التى عرفها العالم العربى.
أحد مداخل التغيير من عند الجذور المساءلة السياسية لعصر «عمر البشير»، الجرائم التى ارتكبت والتشوهات التى حدثت، ما الذى حدث؟.. وما الذى يجب ألا يحدث مرة أخرى؟.. لا إجراء محاكمات عن وقائع محدودة فى آخر عهده، محاكمة العهد لا محاكمة بضعة ملايين من العملات الأجنبية وجدت فى قصره عند خلعه.