بقلم: عبد الله السناوي
فى سنوات ما قبل ثورة يوليو (1952) شهد التاريخ الثقافى المصرى مساجلة بين مدرستين.
الأولى: مدرسة الغرب، وقد نظرت عبر البحر المتوسط إلى أوروبا ورأت مستقبلنا معها، وكان عميد الأدب العربى الدكتور «طه حسين» الرمز الأكبر لهذه المدرسة.
والثانية: مدرسة الشرق، وقد اعتقدت أن ذلك المستقبل مرهون بالاتصال بين شعوبه وحضاراته القديمة، ومن أبرز الأسماء التى تبنت هذه النظرة الدبلوماسى والصحفى الدكتور «محمود عزمى» أحد كبار المفكرين المصريين فى القرن العشرين، كما تبناها فى وقت لاحق من ستينيات القرن الماضى مفكر آخر، هو الدكتور «أنور عبدالملك» صاحب كتاب «ريح الشرق».
فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى انتسبت مصر إلى مدرسة الشرق، تبنت نداءات الوحدة العربية والتحرر الوطنى، أسست مع الهند حركة «عدم الانحياز» بجوار يوغوسلافيا، اعترفت بالصين الشعبية وشجعت دول العالم الثالث للإقدام على الخطوة نفسها.
كان ذلك الاعتراف تحولا رئيسيا فى تاريخ الصين المعاصرة، أفضى تاليا إلى كسب أحقيتها بدخول مجلس الأمن الدولى مطلع سبعينيات القرن الماضى، قبل أن تأخذ طريقها للصعود الكبير بطفرات ترشحها للتقدم بثقة إلى منصة القوة العظمى الأولى فى عالم ما بعد «كورونا».
فى ظروف جديدة وعوالم مختلفة تحتاج مصر والصين إلى مقاربات أخرى تحترم إرث التاريخ، لكنها لا تتوقف عنده، تنمى التعاون الاقتصادى والتجارى لكنها لا تقتصر عليه.
ضرورات التفهم تسبق الشراكة والمصالح المتبادلة.
أولى ضرورات التفهم أن نعترف بالفجوة المعرفية الواسعة التى تفصلنا، حتى لا نكاد نعرف بعضنا الآخر بما هو كاف وضرورى لأى علاقات ذات طابع استراتيجى.
يقول انطباع شائع فى مصر إن الصينيين متشابهون تماما، حتى لا نكاد نفرق بين وجه وآخر.
نفس الانطباع عن المصريين موجود فى الصين.
لقد استمعت إلى طالب يدرس الدكتوراه فى كلية اللغات الأجنبية يتحدث عن صعوبة اللغة العربية ومدى الجهد الذى يبذله للإلمام بها.
سألته: أى لغة فى العالم تراها أسهل؟
أجاب ببساطة: الصينية.
إذا استمع مصرى إلى هذه الإجابة فسوف تدهشه، فالصينية عنده أصعب لغة فى العالم.
البعض فى الصين قد لا يرى فى الشرق الأوسط سوى أسواق مفتوحة على المنافع التجارية.. وقد لا يرى فى مصر سوى بوابة تجارية للعالم العربى وإفريقيا.
إذا استعدنا دروس طريق الحرير فى الصين ومدرسة الشرق فى مصر فإننا نحتاج بعمق إلى تفهم ثقافة وشخصية الطرف الآخر وشواغله، حتى تتأسس شراكة معرفة ومصالح فى الوقت نفسه.
لا أدرى هل كان الموقع المصرى الفريد، الذى يصفه عالم الجغرافيا المصرى الدكتور «جمال حمدان» بعبقرية المكان، نعمة أم نقمة؟!
أتاح لمصر أن تنتج أول حضارة فى التاريخ الإنسانى على ضفاف النيل، وأن تلعب أهم الأدوار فى محيطها بمحطات تاريخية عديدة، لكنه فى الوقت نفسه عرضها لغزوات واحتلالات بلا حصر.
الصين أيضا لها حضارة باهرة وتاريخها سلسلة متصلة من الغزوات والحروب حتى لا تنهض أبدا.
الإرث الحضارى قوة كامنة، لكنه وحده لا يكفى للتحرك نحو المستقبل.
الصين راكمت عناصر قوتها فيما أهدرنا نحن أى تراكم.
الصينيون يدرسون اللغة العربية فى جامعة بكين العريقة، ربما أفضل مما ندرس ونقرأ الأدب العربى والثقافة العربية، حتى يتسنى تعظيم مصالحهم فى هذه المنطقة الحيوية من العالم، ونحن بحاجة إلى معرفة حقيقية بالصين، لغتها وثقافتها ومكونات شخصية أهلها، أو إعادة اكتشافها فى عالم جديد يوشك أن يولد.
أحد المشاريع الصينية الكبرى للمستقبل، التى يتبناها الرئيس الحالى «شى جين بينج»، إحياء طريق الحرير، وهو نوع من التوجه لإعادة بناء جسور الاتصال التجارى والثقافى مع الجانب الآخر من الشرق، حيث مصر فى صلبه.
لم يكن يصعب ــ قبل «كورونا» ــ إدراك قدر القلق الغربى من تواصل التطور الصينى بمعدلات نمو مرتفعة، عناصر القوة بمعناها الشامل تتراكم، بنايات مدنها الكبرى تناهز ناطحات سحاب نيويورك، مترو أنفاق العاصمة يتفوق على أى مترو أنفاق بأى عاصمة أوروبية، التقنيات الحديثة فى كل مكان، ومستويات المعيشة فى تحسن مطرد.
قبل أن يضرب وباء «كورونا» العالم كان مؤكدا أن الصين فى طريقها لاكتساب صفة الدولة العظمى.
مالت توقعات أنه بتراكم المال والسلاح سوف يأتى وقت تتساءل فيه الصين عن طبيعة نظامها السياسى وضرورات تجديده من داخله، على طريقتها المتريثة، التى تمضى خطوة محسوبة بعد أخرى، حتى تكتسب قدرتها على التحول إلى قوة عظمى بمعناها الشامل.
كان تقديرى، فى محاضرة ألقيتها عام (2017) بجامعة بكين العريقة أمام نخبة من أساتذة وطلاب الدراسات العليا فى اللغة العربية، أن ذلك سوف يتم بالتدريج على أبعد تقدير خلال العشرين سنة المقبلة.
الآثار السياسية والاستراتيجية، التى يمكن أن تترتب على «كورونا» فى بنية النظام العالمى، تداهم جميع الحسابات والاعتبارات والسيناريوهات السابقة، وتضع الاستجابة الصينية تحت الاختبار المستعجل.
هناك الآن حربان حقيقيتان تدوران فى العالم، الأولى: بالسباق مع الزمن لإيجاد لقاح يوقف تمدد الوباء ويعيد الحياة، بقدر ما هو ممكن إلى طبيعتها، خشية ما تفضى إليه الجائحة من انهيارات فى الاقتصاد وآثار مدمرة فى سوق العمل والتوظيف، ومجاعات تشمل ملايين البشر فى الدول التى تعانى من هشاشة أوضاعها الاقتصادية.
الصين طرف رئيسى فى السباق مع الزمن بقدر ما تبديه من كفاءة علمية وطبية واقتصادية فى مواجهة الوباء ومد يد العون للدول الأكثر تضررا.
والثانية: للحيلولة دون صعود الصين إلى منصة القوة العظمى الأولى.
وهذه حرب اقتصادية وسياسية ودعائية من المرجح أن تخوضها ضدها أغلب الدول الغربية، رغم ما تبدى فى محنة الوباء من هشاشة فى مؤسساتها المشتركة وعمق التجاذبات بينها.
لا يمكن للصين أن تكسب معركة مستقبلها إذا لم تستند على دعم حقيقى من دول العالم الثالث، فى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، والعالم العربى بالضرورة.
إنها فى حاجة ماسة إلينا مرة أخرى، كما كان الأمر قرب منتصف الخمسينيات.
لسنا جملة زائدة فى الجغرافيا والتاريخ، يمكن أن نكون قوة مرجحة فى عالم ما بعد «كورونا».
هذه فرصة فى التاريخ لا يصح أن تضيع بحثا عن توازن ضرورى فى العلاقات الدولية يوقف أى تغول على الحقوق العربية المشروعة.